top of page

"التمسرح" فخّ المصطلح ومتاهات المفهوم




















د. محمد المديوني

تونس


في البدء


أودّ، في البدء، أن أشكر منظِّمي هذا المهرجان مهرجان بغداد الدولي للمسرح على هذه الدّعوة الكريمة التي لم يكن لي إلّا أن أستجيب لها استجابةَ السّعيدِ بلقاء من يُحبُّ بعدَ انقطاع لم يسْع إليه ولم يستطع ردَّه، بعد انقطاعٍ فرضته ظروفٌ عسيرة عاشها الأحبة في العراق وعشناها معهم بقلوبنا و بِأحاسيسنا ورؤانا، ولكنْ هيهات أن يرتقِي ما عِشناه إلى صور المعاناة التي عاشها الأحبّة وعاشَها الشعبُ العراقِيُّ كلُّه. وإنّي أرى في قيام هذا المهرجان مؤشّرات جميلةً تُبرِز روحًا من المقاومة للخراب الذي عمّ الأرض والبشر وتؤكِّد حضور نُفوسٍ مِعطاءةٍ تتوق إلى الحياة حياةً واعِيَةً وحُرّةً، وهل المسرح، إذا ما تحقّق اكتمالُه "حياة مسرحية" فعليّة ومستمِرّة، إلّا تجسيدٌ للرّقِيِّ الذي لا يكون إلاّ بالحرّيّة وبالوعي بها وبالحاجة إلى تكريسها تكريسًا يُحقّق ذات الإنسان فرْدًا وجماعةً.

و أودّ، بعد هذا، أن أُهنِّئ من كان وراء تحديد موضوع النّدوة ( الذي صيغ موضوعها بهذا الشكل: ("التمسرح" في الخِطاب الرّاهن وممكنات الاستجابة والتلقّي") على رجاحة الاختيار؛ وذلك لأكثر من داعٍ وسببٍ، لعلّ أهمَّها هو المدى الإشكاليُّ الذي يشقُّه في مستويات متعدّدة بدْءًا بكيفيّة صياغته لغةً واصطلاحًا مرورًا بما يتضمّنه من انتظارات هي في ذاتها لا تخلو من سمة إشكاليّة وُصولاً إلى الدّعوة الكامِنة فيه إلى الإسهام في التفاعل مع الآتي تفاعُلاً مشروطًا بِقراءة لـ "الرّاهن" لا تُعدِم صُوَرًا رقيقةً من القلق تُلِحُّ على القارِئ كلَّ الإلحاح، ويتجلّى هذا القَلَقُ في ما يُلمَسُ من الوعي، في الآن ذاته، بتعدّد الفواعل التي من دونها لا يتحقّق للفِعل المسرحِيّ تَمامُه، وبتعقّد الصِّلة القائمة أو المُفْترضُ قيامها في ما بينها، هذا من ناحية، وبَيْنَها وبين رجعِ الصدى لِذلك الفِعل لدى من تُوجَّهُ إليهم نِتاجاتُه، من ناحية أخرى. وفي هذا الذي ذكرتُ ما يشي بالدعوة إلى تناولٍ شامل للفعل المسرحيّ باعتبار مساراته والدواعي إليه، دون الاقتصار على المُنْتَج المسرحِيّ في ذاته - الذي يبقى، مع ذلك، غايةَ الغايات – وفيه، كذلك، إلحاحٌ على الحاجة إلى الانطلاقِ في ذلك، من الأسس والعناصر التي يقوم عليها المُنتَجُ المسرحيّ ليبنِيَ "خطابـ"ـه المُتعدِّدِ الوُجوه – بالضرورة - ويتحقّق له "التلقّي" المُشتهى الذي لا يمكن أن يكون دون الانشغال بـِ"الاستجابة" إلى انتظارات"المُتلَقّي القائمة أو المُمكنة.


المسرح في إطلاقيّته طريقًا إلى المسرح العربي


الصيغة في اللغات الأوروبية

ولئن بدت الدّعوة إلى الانشغال بالمسرح العربي وتجلّياته في هذا الموضوع أمْرًا مسلّمًا به، حتى وإنْ لم يُصرَّح بهذا الأمر تصريحًا، فإنّ الخروج عنه والانشغال بالمسرح في إطلاقيّته أمرٌ بدا، هو الآخَرُ، لا مناص منه؛ لِأنّ ذلك وَحْدَه هو الذي يُمكِّن من العودة إليه، إلى المسرح العربي والانشغال عميقًا به. والسرًّ في ذلك كامنٌ في تنزيل ملفوظ "التمسرح" منزلةَ المُنطَلَقِ الذي عليه يُحال في هذا الموضوع ووضعه في موقع الأساس والمحور الذي تدور حوله العناصر الأخرى لتتناظر وتتداخل وتتشابك. وهذا الملفوظ لا يُمكن أن يقف المرء على معناه ولا أنْ يُدْرِك كثافته التي من دونها يفقد كلَّ ما يبرّر حضورَه بهذه الصورة، دون الإحالة على مفهوم نشأ في البلاد الأوروبيّة وترسَّخ في مُختَلف لغاتها، وتواتَر ذِكرُه بينهم لا عند المسرحيين نُقّادًا ومنظّرين للمسرح، وحدَهم، وإنّما وجد هذا المفهوم-المصطلحُ موقِعًا له في خطاب فنون التعبير الأخرى وفي نصوص الفلاسفة وعلماء الاجتماع والمؤرّخين وغيرهم. وتواتُرُ حضورهِ هذا جعل منه مفهومًا يُخصّ بالدّرس في ذاته وتُفْرد لهُ البحوث في الأدب وفي أغلب فنون التعبير ؛ وتتنازع الرؤى فيه وتتعدّد المقاربات في تناوُلِه . هذا اللفظ المصطلح ورَد في اللّغات الأوروبيّة بصِيَغٍ تتماشى بِنْيَتُها الصّرفيّة والاشتقاقيّة مع منطق كلّ واحِدة منها، ولكنّها كلَّها تنطلق من الأصل اليونانيّ واللاتيني لِهذا الفن، فنِّ المسرح، فتَتَوَحَّد، في هذه اللغات، صِيغُ التعبير عن هذا المفهوم على صعيد المعجم وتكاد تتطابَق.


نتكلّم عن:


صيغة المصطلَح – المفهوم في المعاجِم اللغات

Teatral’nost’- Teatralnost الروسيّة

Teatralità الإيطالية

Teatralitad الإسبانيّة

Teatralitade البُرتغالية

Theatricality - Theatrality الإنكليزيّة

Theatralik الألمانيّة

Théâtralié الفرنسيّة

بيّنٌ أنّ الجامِعَ بينَ المُصطلحات كلِّها هو قيامها على جذر واحد "Teatr" أضيفت إليه زائدة ختاميّة "suffixe" تختلف من لغة إلى أخرى ولكنّها تلعب الوظيفة الصّرفيّة ذاتها فيها جميعِها: وهذا الجِذْر يربطها بِدلالات مُشتَرَكة نَجمَت عن معاني الملفوظ في ذاتِه و عمّا تداخَلَ فيها وتشابك من المعاني الحافَّةِ الحاصِلة له في مجالات البحث في المسرح والأدب والنّقد والفلسفة وتفرّعات كلّ مجال من هذه المجالات؛ وحافَظ هذا المفهوم في كلّ اللغات التي فيها نشأ على المرجعِيّات المتأتّية من جِذْرِه هذا واكتسب كثافَةً في دلالاته بحُكم استخداماته الحديثة في تلك اللغات جميعِها - أو تكاد - والتي لم تَقْطَع قطْعًا مع تلك المرجعيّات وتفرُّعاتها؛ وعندما يَعتمِد النّاطقون بهذه اللغات هذا المفهومَ في كلامِهم وبحوثهم تكون درجة التفاهم حوله و به، نتيجةً لذلك، عالِية جدًّا، حتى وإن كانت دلالاتُ المفهوم لا تخلو من إشكالات. بل يكادون يلتقون في رسم المسار الذي عرِفه هذا المفهوم في جميع هذه اللغات ويُقِرّون له بتاريخ يَحُدُّ بدايات قيامِه ويرسُم له تعرّجاتِه. ويبقى السرُّ في ذلك، أساسًا، مُتمثِّلًا في قيام المصطلحات التي تعبّر عنه في كل اللغات الأوروبيّة على الجذر نفسه وعلى منطقٍ في الاشتقاق واحدٍ، حتى وإن اختلفت بُنى تلك اللغات. يُضاف إلى ذلك، طَبْعًا، التواصُلُ القائم بين الناطقين بتلك اللغات واستيعابِهم لما يُنْجَزُ في كلِّ واحدة منها من بحوثٍ و ما يُعتَمدُ من مقارَبات تُكسِب هذا المفهوم كثافةً دلاليّةً، كلَّ مرّة، حتى وإن أكّد ذلك، أحيانًا، سمته الإشكاليّة.


في الجذر وفي المفهوم في اللغات الأوروبيّة:


كيف يتجلّى كلُّ ما ذهبنا إليه في خصوص هذا المفهوم والمصطلحات المعتمدة للتعبير عنه في اللغات الأوروبية وعند مستعمليها؟


يجب أن نشير إلى أنّ الأمر يتطلّب مجالا أوسع مما تُتِيحه مُحاضرةٌ أو مقالٌ. وهو ما يعني أنّ ما سنذكره هو أقرب إلى العناوين التي هي في حاجة إلى مزيدٍ من التفصيل والتدقيق.


نبدأ بالوقوف عند الجذر "Teatr" وننطلق ممّا ذهب إليه صامويل فيبير Samuel Weberفي كتابه الموسوم بـِ : Theatricality as Medium [" حالة التمسرُح" باعتباره وسيطًا"] ، لأنّه قال وأوفى القول في موضوع هذا الجذر؛ وأبرز، من خلال ذلك، الصلةَ العميقة التي تربط هذا الفنّ، في الثقافة والحضارة الغَرْبِيّتين، بمجالات المعرفة وتحقيقها. فذهب إلى أن كلمة «theatre » [مسرح] تتقاسم نفس الجذر الاشتقاق «thea»لكلمة «theory » [أي نظريّة] و «thea» تُفيد في اليونانيّة المكان الذي منه نرى أو نلاحِظ و أنّ كلمة « theatron » [تياطرون] تدلّ على الموقِع الذي منه نرى، أي المدرجات التي يجلس فيها المتفرِّجون و تحيل لفظة « theatrai » [تياطراي] على "الذين يشاهِدون" أي جمهور المتفرّجين وأمّا عبارة "تيوروس" « theôros » التي كانت الأصلَ في نشأة كلمة «theory » [نظرية] فيُشار بِها إلى الوفد من النوّاب المكلّفين تكليفًا صريحًا بالحضور في حفل أو عرض. وعلى أساس ذلك بيّنَ أنّ النّظرِيّة الفلسفيّة لم تعمل، منذ أفلطون وأرسطو وصولا إلى "داريدا" مرورًا بـ هيغل على إرساء مفاهيم المسرح، فحسب، وإنّما اتخذت، هي ذاتها، في سعْيِها إلى الوصول إلى الحقيقة، في بعض لحظاتها مظهر مسرحِيًّا ...

بيّنٌة هي، إذن، الكثافة الدلالية للجذر الذي تقوم عليه تسمية هذا الفنّ في اللغات الغربيّة وعلى أساسه قام المفهوم المُصطلح الذي يعنينا.


في الجذر وفي المفهوم في اللغة العربيّة:

لِنتساءل، الآن،ّ بعدَ أن عرَضنا ما عرضنا في خصوص المُصْطلح - المفهوم في اللغات الأوروبيّة، عن مدى حضور مثل هذه الكثافة الدّلاليّة في ذهن المستخدِم والمتلقّي، إذا ما اقتصر على الصيغة العربية التي ورد فيها وَحْدَها. لا يبدو الأمر وارِدًا بحالة من الأحوال وذلك لتعذّر الاعتماد على الجذر اليونانيّ اللاتينيّ في الصيغة التي اختيرت لتسمية هذا الفن في اللغة العربية والتي من المفروض أن تكون الأساس في نحت الصيغة العربيّة للمفهوم.


وغياب الجذر "Teatr" من شأنه أن يؤدّي إلى غياب كل الخلفيّات الدلالية وتشابُكها عن الصيغة العربية. ومثل هذا المسلك في نحت المصطلحات الغريبة عن اللغة العربِيّة مُخالِفٌ لِما درج عليه القدامى، عند نقلهم لعلوم الشعوب الأخرى ومعارِفهم، من تعريب للمصطلحات المُعبّرة عن المفاهيم وعن المُعطيات وإدراجها في معجم لغتهم شأن تعامُلهم، مثلًا، مع مصطلح "الفلسفة" الذي تمّ جلبُه إلى اللغة العربيّة وإخضاعُه لمنطق الصّرف والاشتقاق الذي تقوم عليه اللغة العربيّة، مُطبّقين، في ذلك قولة: "ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم" بصورة أصبح معه لفظًا جديدًا أغنى المُعجم العربيّ وربطها بما وراء ذاك المصطلح في لغتِه الأصلِيّة. (الفلسفة) كلمةٌ عربيّة مَبْنى ومَعْنى ولكنّها كلمة تحيل، كذلك، على الجذر الذي قامت عليه الكلمة في اليونانيّة "فيلوس" philos " حُبّ و "سوفوس" Sophosالحكمة المعرفة؛ وتؤمّن، إلى حدّ هامّ، صلتها بتطور اللفظة في اللغات الأخرى والمعاني الحافة التي قد تنشأ في هذه اللغة أو تلك. ولقد سار روّاد هذا الفنّ العرب في القرن التاسع عشر عندما اكتشفوا هذا الفن، في صورتِه المُمَارَسَة في أوروبا ودعوْا إلى استنباته في الثقافة العربيّة فتكلّموا عن "تياطر" و"تياطرو" و لعب "تياطريّة" ولكن لم يسِر اللاّحقون على خُطاهم فاعتمدوا "مرزح" ثم "مرسح" ليستقرّ الأمر بتعميم ملفوظ "مسرح" فكانت القطيعة التامّة مع ما شقّ الجذر اليونانِيّ "Teatr" من دلالات ومن امتدادات من جملتها المفهوم الذي يعنينا في نصّنا هذا.


بيّن أنّه بات من الضروريّ أن يصاغ المفهوم المصطلح اعتمادًا على لفظ "مسرح" المُستحدث استحداثًا. و"يصعب، مثل ما ذهبت إلى ذلك ماري إلياس وحنان قصّاب، التعبير عن مضمون هذه الكلمة بمصطلح مُحدّد ..." والسبب في ذلك يعود في الحقيقة إلى محدوديّة ما يوفّره الجذر الذي قام عليه الاسم المُستحْدث والمنقطع عن الجذر الذي قام عليه المفهوم المصطلح في اللغات الأوروربيّة؛ فلم يعُد ممكِنًا، والحال هي الحال إلّا التعويل على اشتقاق فعل رُباعيّ مجرّد أو مزيد من هذا الجذر على وزن ( فَعْلَلَ) "مَسْرَحَ" ومصدره: "مسرحة" أو الفعل الرّباعي المزيد (تفعلل) "تمسرح" و مصدره : "التمسرح" وكلا الصيغتين لا يفي بالمطلوب بل ينشأ عن استعمالِهما خلط أو اختزال في الدلالة، فـملفوظ "الـمسرحة" الذي مالت إليه مؤلّفتا "المُعجم المسرحي ..." ففضّلتاها عن الملفوظ الأخر ما فتئتا أن أشارتا إلى كونه"مشتقّأ من فعل مَسْرَحَ الذي يستدعي في ذهن المتلقّي معنى تحويل وإعداد مادّة أدبيّة أو فنّيّة أو ... للمسرح" , و يمكن اعتبار روجي عسّاف أوّلَ من استعمله للتعبير عن هذا المفهوم مثلما بيّنّا في كتابنا "إشكاليات تأصيل المسرح العربيّ" أمّا ملفوظ "التمسرح" الذي حظي بالتداول الأوسع فتعود مثلما أشرنا إلى ذلك في كتابنا السابق ذكره إلى يوسف إدريس وبالتحديد في نصّ له موسوم بـِ "نحو مسرح مصريّ"، صدر سنة 1964 وعبّرنا عن احترازنا على الصيغة وأضفنا لها عبارة [حالة] لتصبح [حالة "تمسرح"] سعيّا إلى الحد من معنى عودة الفعل على الفاعل التي تحدّ من دلالات المفهوم وإلى شحنها بمعنى الحالة التي قد تطرأ.


وبيّنٌ، كذلك، أنّه أضحى على مستخدمي اللغة العربيّة، حتى يضمنوا الكثافة الدّلالية للمصطلح القائمة في صيغته الأوروبيّة أن يَستنِدوا على خلفيّة يستحضرونها من الصيغ الواردة في اللغات الأوروبيّة، يشكل واع أو غير واعٍ. وهذا فخّ من الفِخاخ التي تعترض مستخدم الصيغ العربيّة لهذا المفهوم.


المصطلح ودلالاته في المعاجم اللغوية:

لننظر، بعد هذا، في معاجم أغلب اللغات الأوروبيّة ونرى طبيعة التعريفات التي حَظِي بها المفهوم المصطلح الذي يعنينا وسياقات استخدامِه في تلك اللغات.


يتجلّى لنا أنّ تعريفات هذا المدخل تَنُوسُ، بناء على استخدامِاته، بين قُطبيْن مُتناقِضيْن، وإنْ في ظاهِرهما، تناقُضًا شديدًا. يتعلّقُ أوّلُهما بالتعبير عن كلّ ما هو مُصْطنعٌ مبالَغٌ فيه بعيدٌ كلَّ البُعد عن العفويّة ؛ قد يرِد هذا المعنى في سياق الكلام عن المسرح أو نوعٍ منه ولكِنّه قد يرِد، أيضًا، في غير سياقه كأنْ يُتكلّم عن طريقة أداء المُحامِي لمُرافعته في المحكمة أو لطُرُق توجّه رجل السياسة أو رجل الدّين إلى النّاس في الاجتماعات السياسيّة أو الدينيّة؛ وغير ذلك من السياقات ... واعتماد المفهوم بهذا المعنى في غير سياق المسرح يؤكِّد صورةً للمسرح تقوم على المعاني المذكورة والسمات المُحَدّدة (التضخيم والمبالغة والبُعد عن العفويّة...) أمّا القُطب الثاني فيُرْبَطُ المفهومُ فيه بكل ما هو سماتٌ مُمَيّزة للمسرح وَ- أَوْ بِمدى توَفُّر الشروط التي بها يكون المسرحُ ويتحقّق .


ويتبيّن للنّاظر في استعمال هذا المفهوم في الكتابات النّقدِيّة والنّظريّة والتنظيريّة للمسرح وفنون التعبير الأخرى أنه لا يكاد يخرج، في حقيقة الأمر، عن هذين القطبيْن من المعاني الوارديْن في المعاجم اللغويّة العامة؛ فالمدى الاصطناعِيّ والبُعد عن العفويّة هما سمتان من سمات المسرح وهما مَسْلكٌ من مسالك تحقيقه؛ و قد يبدو هذا المسلك دالًّا على قلّة خبرة أصحاب هذا العمل المسرَحِيّ أو ذاك، في رأي بعض النقّاد بناءً على انتظاراتهم أو على منطلقاتهم المعرِفيّة والجماليّة؛ ولكنَّ سمةَ الاصطناعِ والمُبالَغةِ هذه وأمْرَ البعدِ عن العفوية هذا قد يكونا مقصودَيْن ومَسْعِيًّا من خِلالِهما إلى ضمان المدى المسرحِيّ في الأثر المُنجَزِ.


أمّا القطب الثاني من الدّلالات فهو يختزِل، على عكس ما قد يدُلّ عليه من تَوافُق، الجدَلَ كلَّ الجَدَلِ الذي قامت وتقوم عليه الكتاباتُ النّقدِيّة والنّظريّة والتنظيريّة. بل وتقوم عليه مسارات المسرح وممارساته في كلّ الأزمان. ففي الكلام عن الميزات الخاصة للأثر المسرحيّ وعن الشروط التي بها يكون وفي البحث عن تحقُّقها يكمُنُ السؤالُ الذي عليه يرتكز المفهوم الذي يعنينا. وفي تحديد طبيعة تلك الميزات القائمة فيه أو الكامِنة، وفي بيان تلك الشروط وتحديدِ نوعِيّة التفاعُل معها تتجلّى ضروبٌ من الاختلاف تصِل إلى حدّ التناقض التّام. ويبدو المفهوم، بناءً على ذلك، أساسًا يُعوّل عليه، عند هؤلاء، في التمييز بين الجيّد وغير الجيّد، وعند أولائك، بين القائم والسّائد وبين المنشود المدعُوّ إليه. ويبدو هذا المفهوم بمثابة الرّهان الذي به تُعلّل الدعوات إلى هذا النّهج في ممارسة المسرح أو إلى غيرِه.


أمّا المعاجم العربيّة العامة فلا ذكر لهذا المفهوم إطلاقًا، ولا يبدو الأمر غريبًا، باعتبار أن المصطلح لم يستقرّ بَعدُ، على حال، من ناحية، ولبطء العمل المُعجمِيّ على الصعيد العربيّ، من ناحية أخرى. واقتصر حضور هذا المفهوم على المعاجم المُختصّة وعلى الكتابات النّظريّة والتنظيرية، وحْدها.