الأنسنة والمأسسة وثقافة النقد
- Fathi Triki

- Oct 21
- 13 min read

أ.د. فتحي التريكي
المشرف على كرسي الإيسيسكو التفكير في العيش المشترك.
المشرف على كرسي اليونسكو للفلسفة في العالم العربي
ليس ثمة شك أن لفظ ثقافة قديم وعريق في اللغة العربية ولم يكن استعمالها يفيد المعنى الذي نجده الآن في عصورنا الحديثة فقد كان يعني أساسا الفطنة والاتقان والتهذيب والصقل وثقّف الشيء سوّاه وجعله مستقيما. وعندما تمّت عملية اشتقاق المعاني الحديثة للكلمة في أواخر القرن التاسع عشر، تم الاحتفاظ بالتوجّه الذوقي والإبداعي والأخلاقي في الآن نفسه ليتوسّع المعنى ويقترب ممّا أفادته الكلمة وفي أوربا في القرني الثامن عشر والتاسع عشر أي الحذق وتحسين المستوى والتربية على الذّوق السليم بالنسبة للأفراد والمجتمع. فالإنسان المثقّف هو الذي تحصّل بواسطة التربية والتعليم أو بواسطة العلاقات الاجتماعية والمهنيّة أو بالممارسة اليوميّة المتعدّدة على مجموعة من المعلومات والفنون التي بها يصقل مواهبه وينمّي قدراته ويحسّن ذوقه ويهذب أخلاقياته. وفي حضارتنا العربية الإسلامية كان "المثقّف" يسمّى الأديب الذي تمكن من المعارف والفنون ليصبح مبدعا خلاقا ومميّزا بعلمه وكفاءته وأخلاقه.
وحتّى نتعمّق في هذه المعطيات التأسيسية لمفهوم الثقّافة، يمكننا التمييز النظري بين ما به تندمج الثقّافة في البنى الاجتماعيّة لفهمها ولتأنيسها أي ما أطلقنا عليه اصطلاح الأنسنة وبين استجلابها إلى مكوّنات السلطة السياسية ودمجها في مِؤسّساتها إي ما أطلقنا عليه مصطلح المأسسة.
لا يخلو مجتمع من أنماط معيّنة من المعارف والعادات والتقاليد التي تتغيّر وتتأقلم مع المستجدّات الاقتصادية والسياسية والحياتية ولكنّها تحافظ على عناصر نواتيّة تحدّد ملامح هويتها. إذ نعرف أنّ علم الأنتربولوجيا أو ما نسميه الآن بعلم الأناسة هو العلم الذي يدرس الظواهر الإنسانية والثقافية في المجتمع فيتمّ البحث في ماديّتها كالجسد ومكوّناته وفي التعلم والتربية الثقافية وممارساته وفي الشعائر واللغة والصورة والخيال والموت والغيرية وغير ذلك.
فكان لا بدّ علينا أن نتعرّف بدقة على مميّزات مجتمعنا المتنوعة حتى نفهم وضعنا وهويتنا ومستقبلنا، وهي عملية شائكة تتطلب جهدا بحثيّا متواصلا للتنقيب عن كل ما يختزنه جسدنا وخيالنا من رموز ومن معطيات روحيّة وماديّة تشكّل شخصيّة مجتمعنا. لقد فهم ابن خلدون هذه الضرورة الملحّة فحاول تحليل هذه الشخصية المجتمعية على النطاق المحلي للمغرب العربي أوّلا وعلى النطاق العربي ثانيا كما قام أيضا ببناء النموذج المعياري للتحولات الاجتماعية على المستوى الإنسي.
ولكنّ ربط الأناسة بالفلسفة جاء مع ولادة العلوم الإنسانية أي مع تطور المجتمع المدني ونشأة فلسفة الأنوار من خلال فكرة تحسين وضعيّة الإنسانيّة. وكان الفيلسوف الألماني إيمانوال كانط هو من ربط الثقافة بالفلسفة والتربية في كتابه الانتروبولوجيا من المنظور العلمي (1798) وقد ميّز بين أناسة عضويّة تلك التي تقدّمها الطبيعة إلى الإنسان ليستطيع أن يعيش مع الغير، وعضويّة عمليّة معرفيّة مهمّتها تكمن في تحسين وضعية الإنسان في المجتمع وتحضيره وتثقيفه وإعطائه الآليات العلمية والتكنولوجيّة لتطويع الطبيعة إلى خدمته.
والمتمعّن في قراءة المقدمة لابن خلدون يلاحظ دون شك أن مقاربته للإنسان وللمجتمع تؤكد على خاصيتين هامتين تكمن الأولى في تنوّع المجتمعات والثقافات داخلها واختلافها. وقد تجنّب ابن خلدون النظرة الأحادية ممّا أتاح إمكانية المقارنة بين المجتمعات والثقافات. وليس ذلك بغريب لأن ابن خلدون قد نهج منهج التأويل التاريخي والفلسفي في الآن نفسه كما بيّنت ذلك في كتابي قراءات في فلسفة التنوّع[1]. أما الخاصية الثانية فتتمثل في الجانب العملي الاجرائي للمقاربة الثقافية التي لا تستبعد طبعا النزعة التجريدية ولكنها تقلّص من هيمنتها وتجعل جدواها خاضعة إلى البعد التجريبي. ومقدمة ابن خلدون قد تفنّنت في وصف مظاهر الثقافة المجتمعية ودراستها علميا وعمليا.
علم الأناسة في العالم العربي بصفة عامة في وضع غير جيّد سواء كان ذلك في الجامعات تدريسا وبحثا، أو في المؤسسات الثقافية. لذا علينا أن نغذي الدراسات الخلدونيّة بالمستجدات الكانطية وبالتطوّرات الحالية التي وجهت الدراسات نحو مفهوم التثاقف[2].
ومهما يكن من أمر، فإن الظواهر الاجتماعية لبلد ما لا بدّ أن تدرس بطرق علمية حتى نفهم خصائصها ومقتضياتها وتطوّراتها حفاظا على الهوّية وتأقلما مع مستجدات العصر. ولعلّ الشيء الثابت أن على الجامعات العربية والإسلاميّة أن تنبّه إلى ضرورة تدريس علم الأناسة بطرق علمية وتطوير البحوث في ميدانها حتى يتخرّج جمع من المختصين تنتدبهم المؤسسات المختصّة (كالمتاحف ومراكز البحث وغيرها) والقصد فهم نمط حياتنا وتعاملنا مع بعضنا البعض وانكماشنا وانفتاحنا، فنتعرّف على علاقتنا بالحياة وبالموت، وبالجسد والروح، بطريقة الأكل والشرب، بالعائلة والقبيلة، بالرموز المختلفة التي تسكن كياننا.
وبدلا من تنميط الثقافة المجتمعية في قوالب فولكلورية فإن المطلوب هو التدخّل النقدي العلمي والتأملي لبناء ذهنيّة متجذّرة في ثقافاتنا لا محالة ولكنّها ستتفاعل إيجابا مع العلوم والتنوير والفكر الحرّ حتّى نستأصل الفكر المتزمّت والمنغلق.
هكذا إذن تكون ثقافة المجتمع شاملة لكل ظواهر المجتمع التي تعين الإنسان على تحسين قدرته على التصرف في علاقاته مع ذاته ومع الآخرين بطريقة إبداعية وخلاّقة تمكنه من التعايش ومن ضمان حياته وسعادته. ومن هذا المنطلق تكون للثقافة الاجتماعية أهمية قصوى للتوازن المجتمعي من ناحية، ولتطوير الخبرات المختلفة والتصرف والتدبير والإدارة في كل الميادين. و لعل هذا المعنى قد تَضمّنته كلمة "ثقف" نفسها التي تفيد الحذق والفطنة والإدراك والثقيف كما نعلم هو الفطين الذكي المبدع، كما تفيد أيضا الصقل والتقويم وبطبيعة الحال اتسع هذا المعنى اللغوي الأصيل ليشمل مجموع التعبيرات والعقائد والقيم والقواعد الاجتماعية التي تخوّل للفرد أن يتعايش مع الغير بقدر من الحرية والتعاون والتضامن في الآن.
والجدير بالملاحظ أن هذا المجموع مكتسب ومتغيّر ولا يضمن الثبات والوحدة بمعنى أن الإنسان في المجتمع يتثقف يوميا من خلال معطيات تأتيه من مصادر مختلفة كالعائلة والمدرسة والحي السكني والمدينة ووسائل الإعلام المختلفة ومن علاقاته المتنوّعة والمتجددة بما في ذلك علاقات التواصل الاجتماعي استتباعا للثورة الرقميّة. فلا بد إذن من التأكيد على التنوّع التاريخي لهذا المجموع من العقائد والتعابير في مكان معيّن وفي زمن مضبوط، حيث يتم في الآن نفسه ملاحظة أنماط العيش المختلفة وأنماط تكون رمزيّاتها ومحاولة استنباط قواعد عملها ونشاطها وتغيّراتها وارتباطاتها مع تعابير ثقافية أخرى بالداخل والخارج.
وإنّك إذا ما أردت التعرّف على شعب ما لابّد لك من التفحّص جيّدا في معطيات ثقافته الاجتماعية التي تهتم بعلاقاته مع العالم والأشياء، بثقافته العائلية والجنسية، بعلاقاته مع الجسد وحركاته وتمظهراته، مع لغته وكتاباته وهويته وخدماته وتجاربه مع التعلم والأدب، وأخلاقياته وخيالاته وتعبيراته الفنية والدينية وألعابه وأغانيه ومعارفه وأساطيره وعوالمه الرمزية. ولكنك قبل معرفة الثقافات المجاورة لك، لا بد من معرفة ذاتك ومجتمعك بالتعرّف الدقيق على مجالات ثقافة مجتمعك في الأماكن العديدة المكوّنة لوطنك. كل ذلك يكوّن مواضيع علم الأناسة أي الانتربولوجيا التي تبحث في الإنسان من حيث هو فرد يعيش يوميا في محيط معين مع الآخرين حسب قواعد وتقاليد وعقائد معيّنة أي الإنسان الواقعي الذي يأكل ويفرح ويحزن وينفعل ويفكر ويحب ويكره، ويلبس ويتعرى ويسبح ويتجول ويموت ولكن بكيفيات متغيّرة حسب تقاليد راسخة في ثقافة المجتمع.
هكذا إذن تكون الثقافة الأنتروبولوجية الإجتماعية هامة لتحديد هوية شعب معيّن وتثبت وضعيته في العالم المتنوّع والمتغيّر، ولتجديدها حسب المقتضيات المكتسبة للثقافة الإنسانية في الفنون والعلوم والتكنولوجيا وغيرها. ولكن هذه الثقافة الاجتماعية كما قلنا سابقا يجب أن تخضع إلى مراقبة الشكل الأسمى للثقافة ونعني الثقافة النقدية.
كيف يمكننا المزج بينهما، كيف للوصف الأنترولولوجي أن يخضع لنقد وجيه ولفكر ثاقب؟ وما هي نتيجة هذا المزج؟
للإجابة عن هذه التساؤلات لابد أن نلاحظ أن هذه العملية المزجية بن الثقافة الاجتماعية والتمشي النقدي يمكن أن تكون وجدانية عندما يتدخل الفنان المبدع للاستلهام من معطيات ثقافته الاجتماعية عناصر قابلة للتحوّل والإبداع، فيكون الفنان المبدع بذلك قد أثرى هذه الثقافة ونظر إليها نظرة نقدية إبداعية متحوّلة ومتغيّرة ونفى عنها الثبات والسكون. وقد يتضمّن هذا الإبداع انفصالات جذرية مختفية وراء تناسق مزعوم للتراث حتى يبيّن للجميع أن الثقافة متنوّعة في جوهرها مختلفة في مظاهرها وأن وحدتها وثباتها أو تواجدها عبر طيات التاريخ إنما هي عناصر للذات الحاضرة وليست عناصر في الذات حتى تتمكن من بناء تمثلاتها الحضارية إرادة للحياة الجماعية في عالم تصادمت فيه الإرادات وتداخلت فيه الثقافات. وهمّ الفنان المبدع في كل ذلك وضع الأصبع على الثراء الكبير في القيم الثقافية والحضارية للمجتمع وعلى إمكاناته القصوى في التحوّل والتغير المستمرّ والحرية الهائلة لتجعل من الثقافة الاجتماعية حقلا ثريا تترعرع فيه القيم والأفكار والعقليات المتطوّرة فتنعدم بذلك صورة التراث الماضوي الساكن الثابت الذي سيكون حقلا للجهل تتقوقع فيه العقائد المبسطة وتتقلّص فيه الأفكار وتحلّ محلها دغمائيّة كثيرا ما تتحول إلى قوى هدّامة للمجتمع وللعيش المشترك. فالتراث الذي يتعامل معه الفنان المبدع سيصبح في كل زمن تظاهرات آنية حاضرة وفاعلة فيها طبعا استحضار الماضي الذي نحمله في ذاتنا والتاريخية من حيث هي وجود في العالم ولكنه يبني في الآن حضور الذات في الزمان والمكان ويقودها نحو المستقبل.
بين الدكتور شاكر النابلسي[3] أن المعقولية العربية مازالت سجينة التجميع والتفتيش والتأريخ والنقل والتنقيل والشرح والتفسير. فهي لم تصل إلى طور التأليف والابتكار والإبداع والإنتاج الحقيقي للأفكار والمفاهيم والتصورات. فقد بقيت معقوليتنا نقلية في الأساس إذ لم تستطع إلى يومنا هذا أن تقفز قفزة نوعية نحو مرحلة النقد العلمي والجذري الحقيقي لأنّ هذه العقلية مازالت ترزح تحت وطأة المحرّمات والممنوعات والمحجّرات بأنواعها المختلفة دينا وسياسة واجتماعا وثقافة بالرغم من محاولات المثقفين والتقدّميين في إرساء مقوّمات الحداثة. فالوعي الرديء والمهزوز الذي يسود اليوم المعقولية عندنا هو في غالبيته وعي مغلق ومتحجر يقوم على التقليد الأعمى ويرفض التفكير العقلي النقدي. ما زلنا لم نصل بعد إلى ما سماه الفارابي "جودة الروية" إذ مازلنا نتحاور بالشعارات والمواقف الصلبة والكل يحاول تمرير أفكاره وكأنها الحقيقة الواحدة المطلقة. فثقافتنا لم تتعلم فعّالية السؤال في حدّ ذاته ونجاعة النقد المتواصل. فهي تبقى معقولية الأجوبة الجاهزة التي لا تتزحزح. فالثقافة النقدية شرط ضروري لكل تحديث في الفكر والمجتمع والسياسة.
لقد بينا في أعمالنا السابقة[4] أن الثّقافة هي العنصر الجوهري في تعريف الهويّة بما هي انتماء الفرد إلى الجماعة. في هذا المعنى، فإنّ الثّقافة هي الأخرى تصبح ذات وظيفة استراتيجيّة تأخذ بعين الاعتبار الجغرافيّة السّياسيّة العالميّة الحاليّة. وقد بين الكثير من المفكرين أن استراتيجية الثقافة هي سمة عصرنا الحالي.
يمكّننا كل ذلك من فهم جدليّة الثّقافة والمؤسّسة التي تميّز في نطاق أوسع وضعيّة عمل الذّهن. وبالفعل يوجد حاليا توجّه، في كلّ مكان من العالم، من أجل فرض التصوّر الأنتروبولوجي للثّقافة بصفته التّصوّر الأهم والممكن، والعمل بطريقة تجعل مأسسة الثقافة في خدمته. وبهذا يسهل إقحام هذين التّصورين في نسق مركّب محكوم باختيارات سياسيّة وإيديولوجيّة. لقد خضعت مختلف أشكال السّلطات السّياسيّة في منتصف القرن 20 لعمليّة تغيير كبيرة حين مأسست الثقافات فأثبتتها بمراتيج أجهزة محكّمة.
من خلال هذا التّعيين، الأنسنة والمأسسة، نشأ التصوّر الحالي للثقافة الذي نطلق عليه تسمية «ثقافي». فالثّقافي إيديولوجي المنهج وسياسي المقصد. لأنه يحصر الإبداع داخل أسوار مسطّرة ووظائف معيّنة. ويبقى الهدف دوما هو إقحام الثقافة في الخيارات السياسية بطريقة مباشرة أحيانا وملتويّة أحيانا أخرى. على أنّ الأمر لا يتعلّق بالثّقافة الناجعة على المستويات الإيديولوجية والسياسية فقط بل قد تصبح ذات مردوديّة على المستوى الإقتصادي.
يجب أن نقول إنّ قطاعا شاسعا جدّا من النّشاط الثّقافي المعاصر تلوّث من جرّاء ظاهرة التّكثيف، ويتمثّل أثرها المباشر في توجيه طرائق الحكم عند الفرد ومنعه من الحصول على إحداثيّات جماليّة. فالوسائط الإعلامية والرقميّة تعمل غالبا في مثل هذا المقام على تنمية الذّوق الفاسد ونسيان ثقافة النّقد واختزال الإبداع في ما هو رديء وفي ما هو محاكات باهتة للظّاهرة الإبداعيّة مثلما يبرز في الإشهار. تعكس هذه الظّاهرة في آخر الأمر، تحديد الطّبقة الاجتماعيّة الجديدة، أي طبقة المختصّين المتكوّنة داخل أكبر المدارس وأكبر جامعات العالم، لكي تتطابق، بواسطة أسلوب خاصّ، مع من يهيمن على الابداع الثّقافي. إنّ هذه الممارسة المنحرفة والمتنكّرة استردّتها السّياسة بسرعة من أجل قيادة أفضل للرّغبة في أشياء تقارب الفضائح والإهمال واللّهو، تلك الرغبة التي توجد عند العامّة بعد أن تمّ حرمانهم من الإحداثيات الجماليّة كما استردّها أصحاب رأس المال من أجل ضمان الأرباح والإبقاء على الاستغلال والهيمنة .
وللثّقافة الرّسميّة أناسها حيث صارت شأنا للمختصّين الذين يقرّرون قيمة الإبداعات والذين يقومون بتوزيع الجوائز والشّكر حسب معايير لا تكون دائما جماليّة وعلميّة. ولكن لا ننسى أن التّخصّص هو نتاج تجزئة المعرفة وأنّ مختصّا في حقل محدّد يكون عادة جاهلا في الحقول الأخرى. ويذهب ”ليسّاتو“ و”ماسادييه“ إلى حدّ الإقرار بأنّ "الابن العزيز للعمالقة والهلوعين والأمّيين والأدمغة المكلّسة، يواصل التمتّع بحظوة مفرطة، لأنّه يعتبر عارفا بكلّ شيء، حول المسألة وهو ما يمكن أن يكون حقيقيّا في أفضل الحالات ولكنّ الحيرة تكمن في كونه لا يعرف شيئا مهمّا آخر"[5]
فهل يجب إذن تجنّب مأسسة الثّقافة؟ لا يجب التقليل من شأن الثّقافة الأنتروبولوجيّة وعدم الاعتراف بقوّتها. فهويّة شعب لا تكون إلاّ بهذه القوّة أي بهذه القدرة التي يمتلكها كي يجيب على كلّ الأسئلة والوضعيّات التي يمكن أن تظهر في حياته. يعرف الفيلسوف النّمساوي ”غوستاف فون غرينوبوم“ الثّقافة بكونها «نسقا مغلقا من الأسئلة والإجابات المتعلّقة بالكون وبالسّلوك البشري في كلّ المناسبات التي يعترف فيها المجتمع بأمر معياري»[6]، لماذا مغلق؟ «إنّ تعريف الثّقافة بكونها نسقا مغلقا لا يعني ذلك طبعا بأنّه يجب الحدّ من عدد الأسئلة الحائزة على القبول، إنّ العبارة تعني ببساطة أنّ هذه الأسئلة تمتدّ في كلّ قطاعات الكون الذي يدخل، في وقت ما، ضمن الحقل التّعبيري للجماعة»[7]. هذا النّسق إذن ليس ثابتا، فهو يجمع في ذاته تغيّرات واضطرابات وانحرافات بالنّسبة إلى ذاته وبالنّسبة إلى الأنساق الأخرى، وهذا ما يجب في كلّ الأحيان، فعله: أن يشبع النّسق حاجيّات الجماعة، وأن يعيد اكتشاف هويته وحضوره في العالم، وإعادة تشكيل ذاته حسب المقتضيات المكتسبة للثّقافة الإنسانيّة، وتأكيد خصوصيته واختلافه وتنوّع سريرته التي تكوّن العالميّة والإنسانيّة.
كذلك يجب ألاّ نقلّل من شأن النّتائج الايجابيّة لمأسسة الثّقافة. إنّ فعلا ثقافيّا وطنيّا يقضي بتدخّل القطاع العام، ليس فقط في مستوى أحكام الدّولة المتعلّقة بالثّقافة، وإنّما أيضا، في مستوى كلّ الإدارات المتعلّقة بالمعلومات والتّربية والعلوم، يعطي للثقافة نجاعة قصوى. إن النّظام الأمريكي، أساسه ثقافي مؤيّد بواسطة الإدارة ويشتغل كما لو كان وحدة مستقلّة وهذا مثال يعبّر عن الأثر الإيجابي للـ«ثّقافي»، بما أنه يتجنب تواطؤ الأفعال الثّقافية الوطنيّة ويحقق تنوّعها من خلال اتّجاهات التّفكير المختلفة والمتناقضة، ومن خلال العمل على أن يجمع داخل مجالسها، المبدعين والفنّانين والمستثمرين والنّاشرين والمنتجين، وحتى أصحاب القرار السّياسي.
غير أن هذين الشّكلين الثّقافيّين الضّروريّين في الوقت الرّاهن بالنّسبة إلى كلّ جماعة، يجب أن يخضعا إلى مراقبة الشّكل الأسمى للثّقافة، أي الثّقافة النّقدية. لنتذكر أنّ مهمّة الثّقافة النّقدية الأساسيّة هي أن تسمح بتحرير الإبداع والفكر القائم سلفا. فهي قائمة على أساس الفكر الفردي والانطباع الحرّ والحكم النّقدي، لأنّها ثقافة متكوّنة من النّقد ومن الإبداعات ومن التّحليلات والإنتاجات والتّجديدات والتّقديرات. فأن يتثقّف المرء، هو قبل كلّ شيء، أن يرفض حيوانيّته ويعلن إنسانيّته. لقد جعل ”كانط“[8] من الثّقافة موهبة تسمح للإنسان بالتطوّر داخل نوعه بفضل ضرورة التحضّر والتّخلق. إنّ بناء الثّقافة هو غاية كلّ تربية لأنّه بواسطة الثّقافة يهدف الإنسان إلى النموّ العامّ لملكات العقل وهي تمتدّ، بصفتها تربية أخلاقيّة، في طريق بلا نهاية.
لأجل ذلك، فإنّ هذا الشّكل الأرقى للثّقافة هو عنصر ثابت في التّطور الشّخصي والاجتماعي. فهو لا يضع موضع سؤال العناصر القائمة، وإنّما بفضل هذا التّعليم، يصل دون خطأ إلى كمال الإنسان وإلى إثراء مجتمعه. فالثّقافة النّقدية هي إذن ثوريّة، وفي الوقت نفسه عقليّة إلى حدّ أنّها تلزم فيه المجموعة على أن تعيَ الرّتابة وسلطان الأمر الواقع، وفي الوقت نفسه، تفرض عليها الإتقان والتخلّق لكي يصير «العيش معا» ممتعا.
هذه الثّقافة النّقدية تسمح أيضا بنموّ الذّوق الجمالي. يجب القول إنّنا نشهد حاليّا، بواسطة ظاهرة التكفّل الثّقافي وتعريفها إعلاميّا تفقيرا للقيم، وخلطا لكلّ الأحكام، بأهداف غالبا ما تكون مكسبيّة رغم أن سقراط[9] نبّهنا إلى هذا الخلط، وحاول أن يبرهن لنا بأنّه علينا ألاّ نخلط القيمة الجماليّة بالقيم الأخرى مثل المنفعة أو المتعة. فالحكم الجمالي طريق للفرد كي يؤكّد حضوره بما هو كائن مستقلّ. وعندما نحرمه من معيار للفخر ولإبراز شخصيّته، فإنّنا بذلك نزيل عنه استقطابه لذاته ونُخضعه إلى سطحيّة اليومي. في هذا المعنى تجد الجماليّة نفسها مصاحبة للإيتيقا، وما الإستيتيقا والإيتيقا إلاّ ركيزتا الثّقافة النّقديّة.
لسنا هنا بصدد السّؤال عن إمكان صياغة نظريّة عامّة حول النّقد الذي يسمح بتعيين شروط إمكانه أو معاييره الموضوعيّة، نشير فقط إلى أنّ النّقد هو فكر يستند إلى التّعقل ويتمثّل في اختبار منتوج الفكر أو الإبداع كي يحدّد له صدقه أو خطأه، جماله أو قبحه، وعموما الحكم له أو عليه. فبعد كانط يمكن القول إنّ النّقد أضحى منهجا ووجهة خاصّة وأساسيّة للفلسفة وللفكر عموما، فهو «سلطة العقل عموما، مقارنة مع كلّ المعارف التي يمكن أن تستفيد منها في استقلال عن كلّ تجربة»[10]. لذا لا بد من التأكيد هنا على أن الحكم، فعل خاصّ بالنّقد، يوجّه عمليّات المقارنة والتّجريد والتّفكير من خلال الفكرة المعتدلة والمنظّمة التي تكون معيارا للحكم. وسواء كان هذا الحكم ذا طابع منطقي أو إستيتيقي، فإنّ هذا لا يغيّر شيئا في مرجعيّته إلى هذا الفكر النّسقي[11]. ليس بالإمكان أن نسطّر حدودا واضحة بين النّقد والنّظام النّظري الذي يصدر عنه. ولا نرجع هنا بداهة إلى النّقد الذّاتي والانطباعيّة التي تعرض أثر النّقد الذي لحق المنتوج موضوع النقد. في هذا المعنى، كلّ نقد هو تحليل لمنتوج حسب نظريّة مناسبة كي تقوّم مكوّناتها وآثارها، وسواء كانت صوريّة أو محاكية أو تكوينيّة، فإنّ ما يريده النّقد قبل كلّ شيء هو تقديم إضاءة متجدّدة دائما للمنتوج المنقود، وبهذه الصّفة يكون هو الوسيط الضّروري بين الإنتاج والتقبّل، وبين الفنّ وجمهوره وبين الأثر وآثاره.
تفيد كلمة «ثقافة» في أصول اللّغة العربيّة الإتقان في اكتساب المعارف. أمّا الكائن من دلالاتها فيقترب من معنى الحضارة وتدلّ المفردة تقريبا على المعنى الأنتروبولوجي لكلمة ثقافة[12] ، وهو المعنى الذي يعيّن بالفعل، المعارف والمعتقدات الدّينيّة والفنّ والأخلاق والحقّ والعادات وكلّ ما يمكن للإنسان أن يكتسبه في حياته الاجتماعيّة. فصفات الجودة والإتقان تبتعد شيئا فشيئا من تعريف الثّقافة في أصولها العربيّة الأولى، ويصبح المعنى الأنثروبولوجي مهيمنا ومحدّدا للمعاني الأخرى.
أمّا كلمة «أدب» في اللّسان العربي، فيمكن أن تدلّنا على هذه الثّقافة النّقدية، وبالفعل فإنّ لفظة أدب كانت تعني في بداية الحضارة العربيّة والإسلاميّة صرحا كاملا ومفتوحا للمعارف المختلفة. فالعلم، والمعرفة والموسوعيّة والتّقنية تكوّن بشكل ما جوهر الإنسان المثقّف «الأديب»، أي القارئ الذي له القدرة على «إضاءة كلّ شيء» حسب معادلة ”أندري ميكال“[13]. وما وجب عقد الخنصر عليه في هذا السّياق أنّ مجالية الأدب الإسلامي منذ ميلاده وبداية من القرن الثّالث الهجري، تكمن في انفتاح المجالات المعرفيّة على الفضول الإنسانيّ كلّه، وبديهيّ أنّ هذا الانفتاح كان نتيجة من نتائج فتح العالم واكتشاف حقول جديدة اكتسبها المسلمون والعرب بعد اتّساع سلطة الإسلام، وهو أيضا نتاج إرادة المعرفة والاطّلاع على الجديد ووصفه ووضعه برمّته تحت الضّوء...[14]
يمكننا طبعا إدراك هذا الطّريق تاريخيّا بواسطة التنوّع الخارق لمسائل الأدب المتباينة، والمناظرات والمناقشات حول تصوّرات فلسفيّة ومذاهب كلاميّة ومواقف سياسيّة، وبواسطة رسائل الأدباء وأذواق الرّأي ونقد العلماء. هناك تنوع كبير في التعابير الإنسانية شكلا ومضمونا في القرنين الثالث والرابع هجري وكان الأدب حقا قاطرة الحضارة العربية الإسلامية تتبلور وتتجدد بلقائها المستمر بالحضارات المجاورة. فالهالة الثقافيّة الكبرى التي تشدّها قوة اقتصاديّة وسياسيّة للجماعة الإسلاميّة، أصبحت ممكنة آنذاك بواسطة حركة التّرجمة للآثار الفارسيّة والهنديّة وخاصّة اليونانيّة. كلّ هذا مكّن من جدليّة جديدة هي ما سمته رشيدة التريكي[15] جدلية العودة والتّجاوز: عودةٌ متجدّدة دوما إلى أصل الإسلام كي يستديم النّموذج الإسلامي في السّلم الثّقافي والاجتماعي، وتجاوزٌ من خلال هذا الفضول الذي تجذّر لدى العلماء والأدباء ورجال الثّقافة إزاء كلّ ما يحيط الحياة بحثا عن الإبداع والتجديد.
ولعله من الفائدة إن نؤكد ما سبق وحددناه في أطروحتنا حول العقل والتاريخ في الحضارة العربية والإسلامية[16] من أن اهتمامات المتكلمين والسّلفيّين والمؤرّخين والعلماء تعارضا أو توافقا، فيما يخص حوار الدّين والعلم، كما أن تنامي المجون ومظاهر الحرّية المفرطة أو الإحتماء بالتّصوّف والمقدّس عموما، كل ذلك لا يعني فقط تحوّل الثّقافة من مظهرها الصّحراوي الأصل إلى المظهر البارز للمدن. ولكنّه سوف يعني أيضا، وإلى نحو قرنين آخرين (القرن الرّابع للهـجرة) أنّ إبيستمية الثّقافة العربيّة لم تقتصر على تجميع معارف الفترة الإسلاميّة الأولى، بل إنّها ستحاول معرفةَ الأشياء معرفة أفضل وعلى النّحو الذي تكون عليه، واعتماد شكل وجود مستقلّ للكائنات وللأشياء، وامتلاكَ نظرة نقديّة وجماليّة حول كلّ ما يحيط بالإنسان من معارف ممكنة.
لقد كان الأدب بمعنى من المعاني حاملا لهذا التّجديد وهذا التفتّح على العالم الخارجي وفي هذا السّياق هو قريب في معناه وفي نتائجه ممّا أسميته بالثّقافة النّقديّة، وهو أيضا لا يحيل فقط إلى ذاكرة الجماعة المتجذّرة في أصولها، بل إنّه يطلب أيضا كلّ ما هو أفضل عند الآخرين من الحضارات بكيفيّة تهيّئ الفرد كي ينفتح على الغيريّة.
وقصدنا لا محالة من هذه العودة إلى المفهوم الأصلي للأدب والتأكيد على صبغته الإنفتاحية والجمالية في الآن نفسه هو التعبير الواضح على أهمية الثقافة النقدية. فالثّقافة النّقديّة هي التي يجب تنميتها حتّى تستطيع التّأقلم والتّكيف والمشاركة الفاعلة في الحياة اليومية مهما كانت الظروف والملابسات.
هذه هي الثّقافة التي تسمح للإنسان أو لمجموعة إنسانيّة بالتّموقع والمطالبة بهوية خاصّة. فالهويّة ليست فقط ثباتا داخل الذّات، إنّها أيضا تغييريّة وتحوّلية تثري نفسها بلقائها بالآخر عبر الزمن من خلال إمكاناتها المتواصلة لاكتساب عناصر جديدة وخلاقة. هذه الثّقافة النّقدية التي تسمح لشعب ما بأن يعيش هويّته دون انغلاق ودون تقوقع داخل الذّات، هي أيضا ثقافة تجعله مبدعا ومنفتحا على الآخر دون خوف من الذّوبان أو السّقوط في العدم أو الاستنزاف حسب المصطلح الهيغلي. فبفضل رقابته المتواصلة للثّقافة الأنتروبولوجيّة، سيتمكن حتما من إقامة علاقات سلميّة وتحاورية بين الحضارات والثقافات المختلفة وتحقيق شكل من التّثاقف حيث لا تسود إلاّ المصلحة المتبادلة التي تخوّل شيئا فشيئا إلى الوصول نحو ما سميته بالتآنس من حيث هو شرط الإنسانيّة واعتناق الأفكار المجدية والإيجابية والاتّجاهات المختلفة والمتنوعة ولكنها مشتركة لضمان حياة أفضل لكلّ البشر.
[1] قراءات في فلسفة التنوع: طبعة أولى، الدار العربية للكتاب 1986
[2] إنظر كرستوف فولف، علم الأناسة، المرجع المذكور صفحات 30 إلى 40.
[3] أنظر كتابه الفكر العربي في القرن العشرين 2001
[4] أنظر كتابنا فلسفة الحياة اليومية تونس وبيروت 2009
[5] Bruno Lussato et Gérald Messadié, Bouillon de culture pp 55- 56
[6] L’identité culturelle de l’islam, éd Gallimard, Paris, 1993,
[7] Ibid
[8] Emmanuel Kant, Critique de la raison pure, théorie transcendantale de la méthode, ch1
[9] Platon, Le grand Hippias, pp284-286
[10] Emmanuel Kant, Critique de la raison pure, préface de la 1er édition.
[11] Béatrice Longunesse , Kant et le pouvoir de juger, éd, PUF, Paris, 1993, p208.
[12] Culture
[13] - الأدب العربي، PUF، باريس، 1969.
[14] - فتحي التريكي "الفكر التاريخي في الحضارة العربية والاسلامية"، صص 229 -231.
[15] رشيدة بوبكر التريكي، الجماليات والسياسة في عصر النهضة
Esthétique et politique à la Renaissance, Publication de l’Université de Tunis, Tunis 1987
[16] Fathi Triki, L’esprit historien dans la civilisation arabe et islamique, Publication de l’Université de Tunis, Tunis 1992







