ثقافة الصوت: الصّوت في الجسد والجسد في الصّوت
- Adel Bouallegue

- Oct 21
- 11 min read

د. عادل بوعلاق
مختص في الفلسفة و العلوم الثقافية - جامعة جندوبة
خطة
تمهيد:
عندما نتناول الصّوت في الجسد نطرحه باعتباره سلوكا أدائيا يستوجب من أجل تنفيذه انخراط عناصر عديدة من طبيعة فيزيائيّة منها هيئة الجسد واسترخاء الأعصاب والتّنفس إضافة إلى نظرة العينين والتّلفظ ونبرة الصّوت أيضا. فاكتمال المعنى لا يقتصر على الكلمة في حدّ ذاتها بل أيضا في عمليّة التّواصل الصّوتي الجسدي.
يُطرح الجسد عند الأداء الصّوتي في فعله لا في مجرّد حضوره الفيزيائي ففي التّعبير والتّعبيريّة عرض للطّاقة الصّوتية الجسديّة، إنّها البصمة الصّوتيّة للجسد الذي يتحوّل بدوره إلى علامة دالّة تنطلق من اللّغة لتتحوّل إلى تشكّل إيمائي صوتي جسدي. وهنا يكمن الفرق أصلا بين نصّ يُقرأ ونصّ يُقال،[1] حيث نجد أنّ المنطوق اللّغوي الشّفوي يحمل تعابير الوجه والجسد عموما عكس اللّغة المكتوبة. فلا يمكن اختزال الكلام في الكتابة فقط إذ الكلمة هي جسد مما يعطي للكلمة صدى خاصا بها عند عمليّة أداءها بما تحمله من نغمة ورعشة وأحاسيس فميزة اللّغة تكمن فعليا في اللّغة المنطوقة. والجسم هو فضاء الرّنين الصّوتي الذي يولّد دافع الإيماءة الصّوتية لتكون امتدادا للجسد، لانّ الصّوت بما هو البصمة متجذّر في التّجربة الدّقيقة والمرهفة للجسد نفهم من خلاله الرّغبات الدّاخليّة الكامنة والمتراكمة فينا ويجعل من الممكن الحديث عن الصّوت في الجسد والجسد في الصّوت.
في الفنّ كما في أغلب الأديان يقع البحث عن نقاوة الجسد وحياده ليكون نقطة انطلاق طاقة صوتية مبدعة تتميّز بالشعور بفرادتها في الأداء. فالصّوت هو الامتداد الطّبيعي لتعبيريّة الجسد ليثبت بدوره وجودا ما في المكان والزّمان. ويعتبر الصّوت ذاكرة الكائن الحي المتجاوزة لحدود اللّغة المنطوقة للتّعبير عن الرّمزيّ، لنجد تلازما لقطبين في الذّات هما الجانب الغريزي فيه والجانب الواعي.
إنّ التّعبير الصّوتي في اللّغة هو عمليّة فيزيائيّة بالأساس يلعب فيها الحجاب الحاجز دورا مهما في الأداء وذلك بدفع الهواء من الرّئتين لإحداث اهتزاز في الحبال الصّوتيّة ليتكوّن الصّوت الذي يتمّ التّحكّم فيه بالشّفتين وبالتّالي يقع تكوين إنتاج لغوي للتعبير، فالحرف في بعده الفيزيائي يتكوّن على مراحل أربعة هي: مرحلة التّحريك ثمّ التّصويت وبعدها مرحلة التّضخيم لننتهي في الآخر بمرحلة التّشكيل.
إنّ البحث في الأصل المادي للتعبيرات الأدائيّة مهمّ في التحليل " فالتّجربة الجماليّة الخاصة لا تستطيع أن تغضّ الطرف عن الطّابع الشيئيّ للعمل الفنّي فالحجر موجود في العمل الفنّي المعماريّ... واللّون موجود في اللّوحة المرسومة، والصّوت موجود في العمل الفنّيّ اللّغويّ".[2] فالصّوت إذا هو الأصل المادي للّغة ويمكن اعتبار الشّفتين الجسر الرّبط بين عالمنا الصّوتي الدّاخلي وعالم اهتزازات الصّوت خارجيّا.[3] لذلك نحن نضع كلّ طاقتنا الصّوتيّة الدّاخليّة لينخرط المتلقي في لعبة إقناع ونتسلّح بالعمق والصّدق في الأداء بلغة هي في أصلها الطّبيعي وليدة هذه الطّاقة الصّوتيّة التي بداخلنا. إنّ كلّ جزء من حديث صادر عن متكلّم هو ليس مجرّد إفصاح عن المعنى وعن الشيء موضوع الكلام فقط بل هو فعل يترك أثره الآني واللاّحق في المتلقّي
1- الذّاكرة الصّوتيّة:
يشترك المكوّن اللّفظي واللاّ لفظي في تشكيل الذّاكرة الصّوتيّة لدى كلّ فرد إذ تنطلق التّجربة منذ الولادة بحالات شعوريّة صوتيّة عند الإحساس بالخوف والغضب والفرح والحزن والمفاجأة والنّفور من شيء غير مرغوب فيه والاشمئزاز أو التّقزز من شيء ما. وهو ما يدفع نحو ردّة فعل صوتيّة جسديّة ناتجة عن الألم أو اللّذة وفي تساجع كلّي مع الشّعور في حدّ ذاته وهذه الاستجابة تكون عادة فوريّة وبشكل تلقائي[4]. وهي ليست بالضرورة تعبيرات بمكوّن لفظيّ تنبع من وعي صوتي بل يمكن أن يكون تعبيرا لا لفظي. وهذا السلوك الصّوتي الجسدي قد يطرأ عليه تغيير فهناك جانب آخر يتدخّل في تحديد مواصفات الصّوت أهمّها معطى اللّغة التي تلزمنا وتضعنا أمام طريقة بعينها للأداء الصّوتيّ الجسديّ فاللّغة تساهم في تحديد الإمكانيات المتاحة لاستعمال الصّوت وتدفّقه الحر من الجسد.
يُحتجب كلّ من الصّوت والجسد لأنّ اللّغة في أصلها هي عامل خارجي يكتسبه الفرد في سياق تفاعله مع العالم الخارجي لهذا يمكن القول بأنّ اللّغة هي سابقة عن وجود الفرد مستقلّة عن إرادته وملزمة له ليتمكّن وينخرط في التّواصل الكلامي مع الآخرين. هذا بالإضافة إلى معطيات أخرى ثقافيّة تساهم في هذا الإلزام فتكبح درجة الاستجابة إلى الأحداث الطارئة مما يتسبّب في خزن جانب كبير من أحاسيسنا في مراحل حياتنا، لتتحوّل إلى محطات هامة يمكن الإفصاح عنها إن توفّر المثير اللاّزم لذلك. وهو ما يساهم في نحت الذّاكرة والسّلوك الصّوتيّ الجسديّ، الذي سينتج ردود فعل واستجابة شعوريّة وبالتّالي يمكن البحث في مرجعيات من قبيل مسرحة السّلوك الطّبيعي للشّعور البشري عموما،[5] حيث يظهر الجسد في تعبيره وتعبيريته حاملا لسلوك جمعي ويكون ذلك لدى الفرد كما لدى المجموعة وذلك إذا انطلقنا من اللاّوعي الجمعي.
تتحول الذّات إلى أداة في الفعل الجماعي ويكون العقل الفردي رهين ما يُطلب منه لا ما يرغب فيه ليتحوّل بذلك إلى عقل أداتي يمكن أن يحجب الشّعور الذّاتي الرّاغب في المبادرة. فالأنا وبفعل هذا الاحتجاب يصبح لها مسار ذاتي مكبوت أو مخفي أمام واجب الأداء الجماعي الذي يطفو إلى السطح كلّما لزم الأمر ذلك، فتُخف الأنا ذاكرة ويقع الاعلانُ عن أخرى تحمل مسارا مشتركا مع المجموعة. تذكّرنا هذه الازدواجية بما ذهب إليه هنري برغسن (Henri Bergson) في كتابين إثنين هما " المادة والذّاكرة " و " بحث في المعطيات المباشرة للشّعور" [6] فالوعي يعني الذّاكرة بالأساس وهي في جانب كبير منها ذاكرة تعاملنا مع المادة الصّلبة باعتبارها معطى نعتقد في أزليّته ونتصوّر أنّه ثابت في الوجود.
في الأداء الصّوتي هناك بروز لذاكرة وذاكرة بعيدة المدى مما يجرّ إلى محاولة فهم المعنى من خلال الشّخص المتكلّم عبر إيماءاته الصّوتيّة. فالتّعبير الصّوتي يكون دائما حمّال لمعنى خفي وتحتاني، فقد يهزّنا هذا الأداء في التّعبير الصّوتي إلى معنى مغاير للجملة المكتوبة. بحسب نبرة الصّوت وشدّته وارتفاعه إضافة إلى تعبيرات الجسد المصاحبة للكلام لنكون أمام إيماءات صوتية تعرّضنا إلى الانكشاف والمكاشفة أمام الآخرين، إذ الفائدة ليست في ما يقول المتكلّم بل في ما يفهمه المتلقّي أمام التجسيد.
في كل تواصل كلامي يبرز المعنى ويطفو إلى السطح عندما يغشى الصّمت ويُخيّم، إذ بين الصّوت والمعنى يمكن أن يستقرّ فعل الصّمت، ليتعمّق المتلقّي أكثر في المعنى وفي طبيعة صوت المؤدّي المتكلّم وتعبيره عند الأداء والذي يكون منبعا لفهم ما هو غير معلن في الخطاب، وغالبا يكون هذا العمق في إدراك المعنى وبنائه أثناء الصمت في سياق الأداء الصّوتي الكلامي. وقد تلعب الإيماءات في سياق الحديث دور المعوّض لنقاط السّكوت حيث يتمّ الوقوف عند مستويات بعينها من الحديث لإبراز المعنى.
2- سيميائيّة الإيماءة:
إذا أقرّينا بسيميائيّة الإيماءة فنحن بالضّرورة لا نفصل ذلك عن سيميائيّة الجسد في فعله وتعبيره، مع الاشارة إلى وجود فرق واضح بين تفسير ما هو قابل للكتابة من ناحية وبالتّالي تحليله وما هو غير قابل للتفسير. فالوحدات اللّفظيّة يمكن تحديد مفهومها وتعريفها بسهولة في حين أنّ وحدات الإشارة والإيماءات تستوجب لتحديد معناها أكثر من مقاربة.[7] فقد تحمل الإيماءات أكثر من معنى كما يمكن أن يُعبّر بها عن نقيض المعنى المشار إليه في العبارة، وربّما تطرح الإيماءة ضرورة وجودها مع العبارة للإفصاح عن المعنى الأصلي للعبارة ذاتها. وبالتالي يمكن أن نجد إيماءة إضافيّة للعبارة وأخرى مستقلّة بذاتها كما توجد إيماءة مناقضة للكلام الذي يمكن أن ترافقه. وهنا يمكن أن نطرح أكثر من سؤال من قبيل هل سندرس الإيماءة في حدّ ذاتها أم المعنى المراد من وراء هذه الإيماءة؟ وهل نفصل الحركة عن اللّفظيّ في التّحليل السيميولوجي؟.
وكما توجد قنوات لفظيّة هناك قنوات حركيّة إيمائيّة تشارك في التّعبير والتّعبيريّة في التّواصل وأحيانا تنفرد به ليكون استقاء المعنى من خلال الإيماءة، وذلك بالرّغم من عدم وجود نموذج موحّد لمدلول الإيماءة وتشكيل المعنى وتوحيد معجم هذه الإيماءات، وبالتّالي نجد أنّ أهمّ المحاولات الحديثة في التّحليل السّيميائي تحاول اقتراح تصنيفات وظيفيّة حيث يقع طرح العلاقة بين الإيماءة والنّشاط موضوع هذا النّشاط الإيمائي. وبشكل خاص تصنيف الإيماءات في سياق المحادثة حيث يتمّ تحقيق المعنى من خلال التّفاعل وجها لوجه مع تآزر اللّفظي مع الإيماءة. وفي علاقة الإيماءات باللّفظي في الخطاب والحوار وجها لوجه يمكن التّمييز بين إيماءة مرافقة ومطابقة بشكل كلّي للعبارة بما يجعل إمكانيّة تعويضها للكلمة أمرا وارد مثال ذلك نذكر الإشارة المطابقة لقول لا أو نعم. كما توجد إيماءة متجاوزة للعبارة وبالتّالي تكون متجاوزة أصلا لحدود المعنى المشار إليه من خلال الكلمة.
وكما توجد لغة قابلة للقراءة والتّحليل فإنّنا يمكن أن نبحث عن العلامة من خارج اللّغة إذ يمكن أن توجد إيماءات غير لسانيّة جُعلت للتّعبير انطلاقا من جهاز إيمائي متكامل وهي جزء من النّسق الثقافي الاجتماعي تأتي بقصد أو بغير قصد أو هي شبه مقصودة بما لا يمكن للألفاظ أن تعبّر عنه لتكون بفعل ذلك بلاغة الإيماءات أوضح وأفصح من بلاغة الكلمات فيكون التّواصل من وراء اللّغة أي أنّ التّفاعل وجها لوجه يمكن أن نلجأ فيه إلى لغة الجسد والإيماءات أحيانا أكثر من الكلام.
تستوجب هذه الإيماءات بدورها منّا القراءة والتّحليل وذلك مع الأخذ بعين الاعتبار إمكانيّة دراسة التّرابط الحاصل في عمليّة التّواصل بين الإيماءة الجسديّة والصّوت البشري الذي يأتي في شكل لغة لنكون بذلك أمام ما عبّرنا عنه سابقا بالإيماءة الصّوتيّة وهي ليست مجرّد حركة صوتيّة. وهنا يمكن الاقرار أيضا بأنّ العبارة المنطوقة في حدّ ذاتها هي في الأصل إيماءة صوتية تخضعنا غالبا إلى ضرورة المرافقة بالتعبير بالجسد.
وفي تجاوز للكلام والصّورة تظهر الإيماءة في حدّ ذاتها حمّالة لمعانٍ قد يُفصح عنها وقد لا يُفصح عنها إن كان ذلك في الدّائرة الاتّصاليّة الضّيقة أو الواسعة. إذ يمكن أن تظهر الإيماءة في شكل تواصل دون إصرار على التّواصل ودون تبادل واضح للأفكار، أو في شكل تواصل مع الإصرار على التّواصل ولكن بدون تبادل الأفكار، كما يمكن أن تظهر الإيماءة في شكل تواصل فيه إصرار على التّواصل وتبادل الأفكار، وذلك في إطار دراسة لسلوك البشر جسديّا في تواصله وأثناء محادثاته وكذلك في استقلال عن الكلام والتّواصل اللّفظي في حدّ ذاته.
يمكن القول بأنّ الإيماءة هي ذاك النّشاط الطّبيعي للجسد والذي يُؤدَّى بغية الإفصاح عن معنى إذ يمكن للإيماءات أن تقديم الجسد في فعله ونشاطه باعتباره نظاما للعلامات. وربّما يختلف تحليل الإيماءة عن اللّغة باعتبار أنّنا نطرح مع الإيماءة دراسة سيميائيّة واسعة وعامة لا يجب أن تتماهى مع ما يُطرح في اللّغة، فالمعنى في الإيماءة هو مؤشّر حول طبيعة الوظيفة الإيمائيّة التي تهدف إلى وضع احتمالات للتّفسير والفهم لا معنى قطعيّ.
إنّ في إظهار المعنى إحالة واضحة على الأصل وهو في حدّ ذاته إبراز للعبارة نفسها التي تضمن الحدّ الأدنى من المعنى والذي نحن نتمثّله من خلال العبارة تمثّلا تخيّلي إلى أن يحدث المعنى تجريبيّا بين العبارة والدّلالة الحيّة عن الشيء وتُطرح المخيّلة هنا باعتبارها العنصر الحيوي للفينومينولوجيا[8]. لهذا يمكن القول بوجود متخيّل للكلمة يأتي قبل ربطها دلاليا بالشيء المشار إليه وهنا قد تسبق الإشارة بالإيماءة العبارة ثمّ ترتبط الإيماءة بالعبارة لتكون إيماءة صوتيّة مطابقة بشكل كلّي وليس جزئي للمعنى الدّلالي للكلمة ويتحقّق بذلك إدراك المعنى في كلّيته فتكون الإيماءة الصّوتية بمثابة الصّورة الأكوستيكيّة للكلمة.
ورغم تعدّد المناهج التي تدرس الإيماءة الجسديّة الصّوتيّة في دلالاتها إلاّ أن ما ذهبت إليه مدارس أمريكيّة حديثة وبالتّحديد لدراسة الإحساس بالحركة (la kinésique) والعلاج الطّبيعي يعتبر مهمّا في مراقبة السّلوك الجسدي أثناء العمليّة التّواصليّة الصّوتي الكلامي ويمكن القول بأنّ هذه الدّراسات للسّلوك الحركي للجسد والسّلوكيات الاتّصاليّة للبشر كما الحيوان تستند في الأصل إلى الدّاروينيّة،[9] التي تعتبر نقطة انطلاق دراسة السّلوكيات الإيمائيّة.
وهذا بالإضافة إلى ضرورة طرح البعد السوسيولوجي للسّلوك الجسدي الصّوتي للبشر ومسرحة الإيماءات في الحقول الاجتماعية، كما أنّ في دراسة الأجناس والدّراسات الإثنولوجية والبحوث الأنتروبولوجيّة هناك أخذ بعين الاعتبار للفوارق في السّلوك الجسدي الصّوتي للشّعوب لما تتوفّر عليه من أساليب تواصل ميتالغويّة قد نجد لها آثارا في المسرح عموما وإعداد جسد الممثل وصوته خاصّة.
3- لغة الإيماءات:
كيف تنتظم الحياة المشتركة اتصاليا وسط هذا التّداخل للعلامات وتشعّبها؟ خاصّة وأنّ البشريّة قد ارتبطت في تواصلها بأسلوب لفظي وأصبحت أقلّ تعودا على اللاّ لفظي رغم أنّ الإنسان يستعمل الكلمة والعبارة عندما يعجز عن التّبليغ بآليات أخرى كما يستعمل الحركة والإيماءة عندما يُفرض عليه ذلك فيصاحب انفعاله الصّوتي بحركات الجسد. وهذا يحيلنا على إمكانيّة الحديث عن سيميوتيقا اللاّ لفظي (sémiotique non verbal) وعن ميتالغة. وقد تتعدّد المجالات التي تعتني بلغة العلامات التي يستعملها الفرد في التّواصل اللا لفظي والتي تترك أثرا في المتلقّي فيتجاوز أثر اللّغة الكلاميّة ومن ذلك العلامات الصّوتية الموازية للّغة (le paralinguistique) والإشارات والإيماءات الجسديّة من قبيل ملامح الوجه ولغة العيون بما يعني السّلوك البصري للفرد أثناء تواصله مع الآخر والسلوك التّفاعلي أثناء الأكل حيث يمكن أن يصاحب الأكل حركات وتصرّفات بعينها هي قابلة للتفاعل والتّحليل مثلها مثل تفاعل الإنسان مع الرّوائح.
إنّنا بلغة الإيماءات الجسديّة منها والصّوتيّة نكون أمام ثلاث زوايا في التحليل هي شكل الإيماءة في حركتها ووظيفتها والمعنى المراد إيصاله من خلال هذا السلوك الانفعالي الإيمائي. ولا تعتبر الإيماءات وسيلة تواصل فقط بل هي جزء من تصرّفاتنا اليوميّة الشعوريّة واللاّشعورية، فهي بذلك تساهم في أداء وظائف تواصليّة مع الآخر كما يمكن أن يُعبّر من خلالها عن شعور ذاتي يظهر في شكل ردّة فعل جسديّة صوتيّة. ورغم أن أغلب الإيماءات تُكتسب إلا أنّ بعضها له صبغة كونيّة ترتكز على تمثلات فيزيائيّة بالأساس مثل العطس أو البكاء أو الضحك، رغم أنّ غياب الابتسامة أو البكاء لدى البعض يمكن أن يكون برغبة ذاتيّة.
ويمكن تحديد الوظائف التي هي عادة يقع أداءها بالإيماءات باعتبار أهميتها ومدى قدرتها على الإضافة في الفعل التّواصلي وهنا لا بد من الإشارة إلى أنّ الوظيفة الرّئيسيّة للإيماءات تبقى وظيفة تعبيريّة جسديّة بالأساس وأيضا صوتيّة باعتبار أنّ الصوت يمكن أن يكون وسيلة للكلام كما يمكن أن يكون ردّة فعل الجسد الصّوتيّة الناتجة أساسا عن عنصري اللّذّة والألم ، وهنا تتحدّد وظائف الإيماءات بمدى دعمها للتعبيرية اللّفظي واللاّ لفظي وإنتاجها لصورة مرئيّة للمعنى، إذ يمكن أن نجد وظيفة زائدة تأتي على إثر كلمة منطوقة بشكل شعوري للدّعم يكتسبها المخاطب من المجتمع والثقافة التي ينتمي إليها ومن المتعارف عليه من الحركات المصاحبة للكلام كما يمكن أن تكون إيماءات تحدث بشكل لاشعوري وهي في الغالب إيماءات فطريّة. كما يمكن أن يكون للإيماءات وظائف ملموسة تستعمل للتّفسير أو أن تكون لها وظائف بديلة عن الكلام المسموع.
ولا بدّ من التّمييز على الأقل بين خمسة أصناف من الإيماءات وذلك بحسب الوظائف التي يمكن أن تؤدّيها وهذه الأصناف هي:
الإيماءات الرمزيّة (geste symbolique)وهي موازية للجمل الكلاميّة ولا تتقيّد بالمعنى المستنتج من اللّغة أي المعنى المعجمي المتعارف عليه تقليديا، فتكون الإيماءة الرّمزية قادرة على أداء المعنى بغضّ النظر عن المحمل اللّغوي مثل طرق التسليم وتحريك الرّأس والتّصفيق ورفع الكتفين والغمس بالعين وكل حركات الإشارة. وهي إيماءات تتطلّب دليلا من أجل فكّ رموزها لانّ منفّذها لا يقيّده معنى مباشر لإيماءته.
الإيماءات التّوضيحيّة (geste illustrateur) وهي حركات الجسد الملازمة للكلام لتوضيح المعنى وإبراز المهم في المحاورة وإظهار نقاط الارتكاز في التّعبير الكلامي كأن نشير إلى الوجهة التي أعلنّا عليها بالكلام إضافة إلى الحساب بالأصابع أو رسم شكل في الهواء باليد لإبلاغ المعلومة المُتحدَّث عنها لتكون أوضح للمتلقّي.
الإيماءات الضّابطة (geste régulateur) لتسيير وضبط المنحى التفاعلي في المحادثة إذ لها وظيفة دالة على التّأكيد أو انهاء المحادثة أو طلب المشاركة بالحديث ويمكن للإيماءات الضّابطة أن تكون مصاحبة بالكلام مثل الإيماءات التّوضيحيّة أو منفصلة عنه مثل الإيماءات الرّمزيّة.
إيماءات مكيّفة (geste adaptateur)يعبّر بها عن الحالة النّفسيّة والمشاعر بحركة عفويّة ويشعر من خلالها الفرد بالارتياح اثناء المحادثة كأن يمسك بيد سامعه أو يمسح على شعره أو يضع يده على كتف مخاطبه للدّلالة على التّجاوب والفهم أو طأطأة الرّأس أثناء الحديث.
ويذهب البعض إلى الاقتصار على مستويين من الإيماءات وطرح شكلين للتّمييز بين الإيماءات التي تتوافق مع الكلام والمعنى من خلال اللّفظ فتعيده بالحركة مثل قول اجلس والإشارة باليد من فوق إلى تحت أو العكس عندما نقول قف.
الإيماءات المجازيّة (métaphorique)[10] تتجاوز المعنى الكلامي للدلالة مثلا على اتساع الهوّه بين شيئين. ورغم وجود تصنيفات أخرى للإيماءات إلاّ أنّنا اكتفينا بعرض ما يساعدنا على الفهم والتحليل في المجال المسرحي.
خاتمة:
إنّ وعي الذّات بذاتها لا يُدرك ولا يبرز إلاّ ضمن سياق علاقتها بموضوع يمكن أن يثير هذا الوعي بما يحيط بنا وبحدود فعلنا وهنا يمكن أن نتبيّن ماهيّة الوعي، مع الإشارة إلى أنّنا نفصح عن الوعي باللّغة والتي تستدعي بدورها طاقة الصّوت الكامنة فينا للإفصاح عن المعنى وتدعيمه لفظيا. وليس في الأداء الصّوتي حضور للعبارة فقط بما هي علامة لسانيّة بل هناك حضور بارز لانفعالات الجسد في شكل إيماءات مصاحبة للصّوت، فهي صورة جسديّة صوتيّة لصورة ذهنيّة في أصلها تكون مكتملة باكتمال المعنى فيها. وفي الإيماءة الصّوتية عموما تظهر " للعبارة وللإشارة وظيفتان أو علاقتان دالّتان وليستا حدّين "،[11] فالمعنى يفصح عن ذاته في التّوافق الواضح بين العبارة والإشارة ليكون الصّوت بين قول الخطاب وتجسيده. ولكي تكتمل عمليّة التّواصل ترتهن كلّ عبارة ضمن سياق اشاري إيمائي دالّ إلى معنى مراد من خلال ما هو إيمائي جسدي صوتي.
تخرج العبارة بقرار إرادي واع وقصدي يستوجب من أجل الإفصاح حضورا ذهنيا وجسديا، حيث تتنزّل العبارة بإشارة وبإيماءة مدعّمة للمعنى فيها تأكيد واضح على أنّنا ندرك ما نحن بصدد قوله والإفصاح عنه. وهو ما يدلّل على الوعي القصدي والوعي الإرادي من خلال التّعبير الذّهنيّ الجسديّ عن المعنى، حيث يتحوّل الجسم إلى جسد مجسّد للمعنى وللدّلالة عمّا لا يمكن أن ندركه بالعبارة وحدها بحكم قصورها في إدراك المعنى والافصاح عنه. وبالتّالي نذهب إلى تبيان المعنى بعلامات صوتيّة جسديّة تلتقي فيها نبرة الصّوت بما هو مرئي جسدي في انفعالات إيمائيّة.
إنّنا في التّواصل أمام إدراك لموجود حسّي يمكن أن يُشار إليه بالعبارة كما يمكن أن نكون أمام موجود مفترض ندرك معناه من خلال الإيماءات ونبرة الصّوت. فلا تكتفي العبارة ببداهتها فقد نستعين بما يتجاوز العبارة سمعيا وبصريا لإثبات البداهة فيها فقد يختلف اثنان في البداهة المشار إليها بالعبارة كما قد ندرك الشيء عند السّكوت بعد الإشارة إليه لتمثّله تصوّريا وباطنيّا لما يمكن أن يحيلنا على أمكانيّة طرح مجال آخر في التّحليل وهو سيميائيّة الميتالغة
ملحوظات
[1] Derrida, Jacques, Marges de la philosophie, Editions de Minuit, Paris 1972, p 160.
[2] هادغر مارتن، أصل العمل الفنّي، ترجمة أبو العيد دودو، دار الجمل، ط 1، ألمانيا 2003، ص 62.
[3] Abitbol Jean, L'odyssée de la voix, Editions Robert Laffont, Paris 2005.
[4] Kirouac, Gilles, Les Émotions. Coll. « Monographies de psychologie». Presses de l'Université du Québec, Sillery (Québec) 1992.
[5] Le philosophe Michel Bernard (1927-2015), avec sa monographie intitulée « Le corps » et sa thèse publiée en 1976 dans la collection « corps et culture », « L'expressivité du corps, Recherches sur les fondements de la théâtralité » est l'un des auteurs qui s'est intéressé au corps à travers son rapport à l'art et à la société. Il a développé le concept de la « corporéité » comme « anticorps » comment l’art et plus particulièrement l’art contemporain non seulement remet en question l’unité réelle ou possible du corps mais déconstruit ce concept lui-même au profil de celui de « corporéité ». D'abord professeur d'esthétique théâtrale et chorégraphique, il fonde, en 1989, le Département de Danse de l'université Paris 8 Vincennes-St-Denis, dont il sera le directeur jusqu'en 1995.
[6] Henri Bergson, Essai sur les données immédiates de la conscience, Editions Félix Alcan, Paris 1889.
[7] CASTEL Robert, COSNIER Jacques, JOSEPH Isaac, Le parler frais d'Erving Goffman, Editions de Minuit, Paris 1989, p 233-244.
[8] الصوت والظّاهرة، نفس المصدر، ص 82.
[9] L'Expression des émotions chez l'homme et les animaux (titre original : The Expression of the Emotions in Man and Animals) est un livre du naturaliste anglais Charles Darwin publié en 1872.
[10] De Fornel Michel, Sémantique et pragmatique du geste métaphorique, Cahiers de linguistique française n° 14 Genève, Unité de linguistique française 1993, p 251-252.
[11] دريدا جاك، الصّوت والظّاهرة، ترجمة فتحي انقزو، المركز الثقافي العربي، المغرب 2005، ص 41.







