top of page
  • Instagram
  • Facebook
  • Youtube
  • ICESCO

الثقافة التربوية العربية ومسألة الإبداع


لطفي حجلاوي







د. لطفي حجلاوي 


مختص في فلسفة التربية





"تكون التربية عائقا للإبداعية، ولاسيما عندما تطمح إلى أن تُخضع الأفراد إلى نمط معين، ذلك أنها تولد عندئذ الخوف من الانحراف والامتثالية الاجتماعية" نوربير سيلامي - Norbert Sillamy

تتوقّف الحضارة تدريجيا، كل حضارة، وتتخشّب وتصير حطبا يابسا وسط غابة الحضارات المتنافسة من حولها. ودليل بداية النّهاية هو التوقّف عن الإبداع، والخلق، والتجدّد. فالثقافة أو الحضارة[1] كالبركة كلما ركد ماؤها كلما فسد وصار مضرا، ألم يشهد على ذلك قول الفيلسوف نيتشة "إنّ العقول التي لا تتجدد تكفّ عن أن تكون عقولا"، ذلك هو بالضبط المصير الحتمي للحضارات التي استنفدت جميع امكانياتها الخلاقة وصارت تستهلك من رصيدها الماضي فحسب. وأكثر هواجس وكوابيس الحضارات العظيمة على مرّ التاريخ، ليس امتلاك مزيد من المعارف والتقنيات لتضاعف قوتها فحسب، وإنما: كيف تظل على الدّوام قوية، وتُرحّل شيخوختها إلى المستقبل قدر المستطاع؟ والجواب الوحيد عن هذا السؤال يكمن في امتلاكها مناجم للطاقة البشرية الخلاّقة لا تنضب، وفي امتلاكها لاحتياطات من قدرات الخلق والتجديد والابتكار والذّكاء لا تتوقّف، أي المواهب. لأنك حينما تمتلك طاقة الإبداع الحقيقيّة فقد امتلكت المستقبل. والذّكاء الإنساني والإبداع لا حدود لهما. غير أنّهما يحتاجان كالكائنات الحيّة إلى ظروف للنمو والتطور، إنّهما يحتاجان إلى منابت ((Pépinières وإلى بستاني ماهر يرعى بكل خبرة وصبر ومران البراعم الرقيقة الأولى ويساعدها حتى تكبر وتكتمل. إنه عمل طويل وشاق ودقيق ودؤوب، ولكن عزاءه الوحيد أنّه إذا ما صادف نجاحا فقد أسدى أنبل وأعظم خدمة لحضارته ولمجتمعه ولأمُّته[2].

والبستاني قد يكون أيّ واحد منّا، قد يكون الأب أو الأم وقد يكون المعلّم أو المرشد النفسي وقد يكون الناشط الجمعياتي المتطوع لرعاية الذّكاء والتفوّق، وقد تكون المؤسّسة الخاصة برعاية الموهوبين. ولكن من بين هذه القائمة من المعنيين بالأطفال الموهوبين، يكون للولي والمربي المسؤولية الكبيرة لما في عملهما من استمرار ومتابعة للأطفال، ولعمق تأثيرهما في شخصياتهم.

علامات وجود الخامات الإبداعيّة لدى الطفل الموهوب هي: طلاقة الخيال، واللّعب الابتكاري، والسلوك المبادر، وتنوع في النشاط التركيبي والتشكيلي، والرغبة البارزة في الاكتشاف، والتّفوق في طرق وكيفية إنجاز المهام المطلوبة منه، وصلابة الشّخصيّة واستقرارها، والاستثارة لبعض المنبهات الخاصة، وازدهار نشاط التخيل الانفرادي... ومع ذلك: ما هي السّن التي تأخذ فيها هذه العلامات بالتعبير فيها عن نفسها؟ وما هي الأدوات التي تسمح لنا بملاحظتها وتقدير حجم أصالتها؟

اختلف علماء الإبداع في حسم السّن التي تظهر فيها الاستعدادات الإبداعية عند الطفل الموهوب، كما اختلفوا في أدوات رصدها. والأمران في الواقع مرتبطان، إذ لو استطعنا تحديد السّن بدقة علمية، فإن ذلك يؤشر على نجاح وسائل قيسنا. ومع ذلك فإن هناك من العلماء من يؤكد أنّ القدرات الإبداعيّة تبدأ بالتعبير عن نفسها مبكرا جدا أي منذ السّنة الثالثة من عمر الطفل، بينما عند بعضهم الآخر تبدأ أبكر من ذلك، أي منذ الشهور الأولى. أما عن الوسائل القادرة على تحسّس القدرات الإبداعيّة وضبطها، فهي تتراوح بين الملاحظة المباشرة، والملاحظة "المسلّحة" والأدوات السيكومترية، التي تراكمت بموجب محاولات علماء الإبداع المستمرة في تطوير علمهم.

لكن علماء نفس الإبداع يحذّرون بشكل خاص من عادات الثقافة التربوية السيئة والدغمائية، أي من خطورة السلوك الأرعن والجاهل مع الطفل الموهوب. ذلك أنّ الموهوب وخاصة في مستويات نموه الأولى أشبه ما يكون بالنبتة الضعيفة، المنبثقة من الأرض على استحياء. وأقل شدّة في الهواء قد تُتلفها، وأقل إفراط في الماء قد يغرقها، وأقل إهمال قد يمنع عنها نور الشمس فتذوي وتضعف.

والطفل الموهوب نبتة جميلة، من ميزاتها الحساسية المفرطة تجاه ردود أفعال الاخرين. ولهذا السبب بالذات فإن الحرص العام من الوالدين والمربين تجاه الأطفال جميعا من السلوك غير المدروس والمتهور والعنيف قد يحمي، فيمن يحمي، الموهبة والإبداعية ويساعدهما على مزيد النمو.

وقد بلغت المجتمعات في العالم وفي المنطقة العربية على حدّ سواء مستويات من التنمية الثقافية تسمح لها بادراك ما تعتبره إنسانية اليوم بديهيات تربوية. وهي الشروط الدنيا للنمو السليم والشامل لشخصية الطفل موهوبا كان أم عاديا. فاتساع مساحات التغطيات الإعلامية وشمولها جميع فضاءات وجغرافيا المجتمع الثقافية، خلق حالة وعي عامة متقاربة، صارت حسّاسة أكثر للسلوك التربوي المطلوب. كما أنّ توسّع دائرة المتعلمين، بما في ذلك تعليم "الأميين" قد ساهم في تنمية هذه الحالة الثقافية العامة. ولتقدير المعنى الذي نقصد إليه على نحو دقيق ندعو الأجيال التي عاشت تربويا المنتصف الثاني من القرن العشرين أن تستعيد في ذاكرتها تلك الحقبة ثقافيا وتربويا، وتستعيد معايير وقيم تربية الطفل التي كانت شائعة في زمانها، وتقارنها بالقيم الحالية. إن الفرق كبير في اتجاه تقلّص مساحات العنف المادي واللفظي تجاه الطفل، بما في ذلك التربية الأسرية وراء الجدران. غير أنّ ذلك لا يضمن بالضرورة أن الطرق الحالية قد تكون تسير في الاتجاه المطلوب، وخاصة فيما يتعلق بالأطفال الموهوبين.

إنّ حالة الوعي الثقافية التربوية قد تغيّرت بكل تأكيد، وسقطت عنها ومنها بعض عيوبها، لكنها تظل بحاجة إلى الاستمرار أكثر في النّمو والتحسّن، على أنّ يتّجه تطوّر هذه الثقافة التّربوية إلى إدراك المستويات المتعدّدة للنّمو لدى الطفل واحترامها.

لعل أبرز خطر يتهدد الموهبة والطفل الموهوب، هو تلك الثقافة التربوية التي لا تؤمن بالموهبة أصلا، وتعتبرها إمّا إيديولوجيا لتبرير سيطرة الطبقات الاجتماعية المهيمنة أو تعتبرها أداة لضرب الانسجام الاجتماعي وتمزيقه. والواقع أن مثل هذه الرؤية الثقافية منتشرة عند اوساط مختلفة من المجتمع. ولذلك قد لا نجد تفسيرا لهذا السؤال وهو لماذا تنتشر مؤسسات وثقافة رعاية الموهوبين في مجتمع وتغيب في آخر؟ قد يرى البعض أنّ فلسفة المجتمع واختياراته السّياسية هي الحاسمة في هذا الأمر. غير أنّ الحقيقة البيّنة وراء ذلك تظل في اعتقادنا عدم إيمان القائمين الحاليين على المجتمع في أعماقهم بجدوى وأهميّة المواهب.

إنّ تغيير هذه الثّقافة التربويّة في المجتمع وفي المدارس وفي السّياسات العامة للدّولة يقتضي تغييرا يبدأ بالأكاديميين والمثقفين حتى يتحملوا مسؤوليتهم في نشر أهميّة ثقافة الموهبة بين الطبقات السياسية والتربوية. وهو ما يقتضي في نظرنا العمل على نشر أدبيات الموهبة والإبداع في صيغة بحوث كالذي نباشره، أو مقالات في الصحف ووسائل التّواصل الاجتماعي، لا تكف ولا تملّ من الاشادة بدور الموهبة في التنمية الشاملة للمجتمع، وفي بيان حقيقة أن ليست لها علاقة بالظلم الاجتماعي أو تكريس النّخبوية وإعادة إنتاجها، وإنما لحقها ذلك من توظيف ثقافي واجتماعي خاطئ تحمّلت وزره الموهبة نفسها دون أن تكون مسؤولة عنه.

إن احترام الموهبة والإبداعية لدى الطفل واليافع تكون في أبسط الممارسات التربية إلى أعقدها. وككل الممارسات التربوية تحتاج تربية المبدعين إلى "فلسفة تربوية خاصة". وفي الفكر العربي – وهو موضوع دراستنا- يبدو المفكر المصري مراد وهبة من أبرز من تناول قضية كيف نربي الإبداع؟ في سياق فلسفي ونظري عام. خارج التناول التقني المحض. لهذا السبب سوف تكون أطروحته مرجع دراستنا الحالية.

  من خصوصيات ثقافة الذاكرة عبر التاريخ المعرفي للبشرية كونها تسعى دائما إلى تعويد العقول على عدم مواجهة "الإشكاليات" ودفعها إلى استهلاك واجترار الأجوبة الجاهزة من الموروث. بينما يكمن أو كمن الإبداع في تلك المواجهات عينها ونضح من معين تلك الإشكاليات التي صاغها عباقرة عصورهم وواجهوها بشجاعة دون مسلمات مسبقة. إن إبداع الهندسات اللاإقليدية وإبداع قانون التطور هي من الأدلة الكبيرة على وظيفة المواجهة الشجاعة للإشكاليات.

إن الإشكالية على خلاف المشكلة، هي قائمة على وجود تناقض ما بداخلها، يمثل ذلك التناقض تحدّ للعقل الإنساني، فيجبره على الولادة بخصوبة إبداعية. وفي التاريخ الحديث أمثلة شهيرة، لعل أقربها إلى أذهاننا ولادة علم "السيبرنطيقا" الذي نشأ انطلاقا من فكرة إبداعية لتحدّ تعارض بين نوعين من العلوم يظهران في البداية كعالمين مستقلين هما الرياضيات والبيولوجيا. وبمجهود كل من الفيزيائي المكسيكي أرتير ريسنبلوثArturo Rosenblueth والرياضي الأمريكي نوربارت وينر Wiener Norbet. وقد كان هذا الإبداع الأصل في عودة مفهوم "المعرفة كقوة" للاشتغال في عصرنا، والأصل في اختراع الكومبيوتر بآثاره العملاقة في حياتنا المعاصرة.

هكذا يبدو أن للإبداع منطقا خاصا. رغم أن البعض يعارض الربط بين المنطق والإبداع، بدعوى أن المنطق هو الالتزام بالقواعد بينما الإبداع تحرّر من جميع القواعد. نعم! هكذا تبدو الأمور. غير أن للأستاذ مراد وهبة رأي أخر في كتابه "فلسفة الإبداع" حيث يقول "خلاصة القول إن هذه العلوم البينيّة، وثورة الكومبيوتر وقوة المعرفة تكشف عن منطق جديد هو "منطق الإبداع". وقد يبدو أنه ثمّة تناقضا في الحدود بين المنطق والإبداع بدعوى أن المنطق ينصّ على القواعد، في حين أن الإبداع ينصّ على الخروج على القواعد. بيد أن هذا التناقض يزول بزوال الوهم الدائر على أن الإبداع ظاهرة نادرة مرتبطة بالعبقريّة.

والسؤال هل ثمّة عبقريّة؟"[3]

تُمثل العبقرية ظاهرة مليئة بالألغاز. وقد شغلت الفكر البشري منذ القديم. وبينما ربطها العرب "بوادي عبقر" حيث يوجد الجن والشياطين المُلهِمون لعظماء الشعراء والعباقرة[4]، فإن الفكر الإنساني ذهب في تفسيرها إلى اتجاهين: الأول يربط بين العبقرية والمرض البيولوجي أو النفسي، والثاني يربط بين العبقرية والسّحر.

ويمكننا أن نستنتج مع المفكر مراد وهبة بأنه "ينتفي السؤال عن وجود عبقرية لأنه لا وجود للعبقريّة. ولا يبقى بعد ذلك سوى الإبداع في شكله السّوي السمة الجوهريّة للعقل الإنساني، الأمر الذي يستلزم إمكان ممارسة الإبداع منذ الطفولة، ويستلزم بالتالي إعادة النظر في أسلوب تعليم الطفل"[5]

على هذا النحو، يتأكد لدينا بأنه لا وجود للعبقرية، بمعنى أولئك الناس القلائل الملهمون، ومن ثمّة لا شرعية في التساؤل عنها. وفي المقابل يوجد الإبداع. ذلك التفوق والتميز الذي تبدأ روحه تسكن الذات وتتفتح بداخلها منذ الطفولة. ومع السنوات الأولي من عمر الإنسان يبدأ قدر المبدع بالتحدّد، مما يدفعنا إلى طرح السؤال عن علاقة الإبداع بالتربية وبالتعليم. وهو السؤال الذي ينقلنا إلى اللحظة الحجاجيّة الموالية.

من أجل فهم كيفية تربية الإبداع، يمكننا الاستمرار مع الأستاذ مراد وهبة من خلال كتابه: "مانيفستو الإبداع للتعليم"، وتحديدا في الفصل الذي حمل عنوانا "تعليم بلا دوجماطيقيّة" حيث نجد الجواب الذي نريده. ففي إثناء تفصيله للقول في الدغمائية[6] يتعرّض الأستاذ وهبة إلى أنواع التعليم ويصنّفها إلى نوعين رئيسيين: تعليم يقوم على الذاكرة وتعليم يقوم على الإبداع. وبالنسبة للنوع الأول فان القاعدة الرئيسية المعمول بها هي: التلقين من جانب المعلم، والاستظهار من جانب الطالب الذي يقاس ذكاؤه بمدى تمكّنه من الحفظ والتذكّر. وعلى هذا النحو يستند هذا النوع من التعليم إلى ثلاثية هي: التلقين، الذاكرة، الذّكاء.

ونشهد الآن تعارضا لا يزال يحتدم لهذا النمط التقليدي من التعليم مع حركة التطور الثقافي والتقني التي عليها البشرية في العصر الراهن. إذ يحكم التحول الراهن للحضارة الرباعي: الكوكبية والكونيّة والاعتماد المتبادل، والإبداع. وهو تحول بدأ مع منتصف القرن العشرين مع ولادة العلوم البينية والمعروفة أساسا بالسبيرنطيقا  la cybernétique التي كانت وراء ولادة ظاهرة "قوة المعرفة" ووراء اختراع الذّكاء الاصطناعي أو الكومبيوتر بكل ما حمله من تغييرات عميقة في منهجنا في التفكير. بينما تسير حركة التعليم بنفس المنطق التلقيني القائم على تصورات مسبقة لثبات الحقيقة والمعرفة ومركزية المربي.

والآن إذا جاز لنا التبشير بنسق تربوي جديد، إبداعي، فما هي ملامحه؟ ومن يؤسسه؟

في الواقع يبدو جواب الأستاذ مراد وهبة في هذا المقال مخيبا للآمال أو على الأدق محفزا للتفكير الشخصي، إذ يتردّد في تقديم إجابات مباشرة وجاهزة، حيث يقول "أجيب عن السؤال الثاني وأتريث في الإجابة عن الأول. فأقول إنهم أساتذة كلّية التربية وليس غيرهم.... هذا جوابي عن السؤال الثاني، فماذا عن جوابي عن السؤال الأول؟ لقد أبديت رغبة في التريّث، وهذه الرغبة مردودة إلى أنّ تأسيس النسق التعليمي الجديد يستلزم جهدا جماعيا. وكل ما يمكن أن أسهم به في هذا التأسيس هو إثارة إشكاليات، أي تناقضات من دون رفعها. وهذه الإشكاليات عددها أربع:

الأولى: ماذا نعلّم في ضوء انفجار المعرفة؟ وكيف نعلّم في ضوء انفجار السّكان؟

الثانية: تداخل العلوم، ووجود أقسام في كليات التربية لا تتجاوز تخصّصاتها.

الثالثة: الأكاديمية والتربية.

الرابعة: في ضوء مبدأ اللاتعيّن أو بالأدق اللايقين، هل تظل العلاقة قائمة بين المعرفة والحقيقة.

هذه هي الإشكاليات الأربع. وأعتقد أن رفع التناقض الكامن فيها، يمكن أن يكون إرهاصا لتأسيس النسق التعليمي الجديد"[7]

وهكذا يبدو إلى حدّ هذا المستوى، أننا لا نجد إجابة تقريرية مباشرة عن سؤالنا، كيف نعلّم الإبداع؟ ... ومع ذلك يقودنا البحث في الصفحات اللاّحقة إلى الإمساك ببعض التأسيسات المهمّة في العثور على هذه الإجابة المطلوبة. يقول الأستاذ وهبة في فصل " الإبداع مدخل للتعليم" ما يلي:

"علينا أولا التفرقة بين الإبداع كمهارة تعليميّة موضوعة في نهاية سلّم المهارات، وبين الإبداع كمحور للمهارات...فهو بالضرورة المحور الذي تدور عليه مهارات التفكير. واجتزئ من هذه المهارات ثلاث لأدلل على ما أقول: وهي "حل المشكلة" و"تكوين العلاقات" و"التفكير الناقد"... ونخلص من ذلك إلى أن النّظر إلى الإبداع كمحور للعملية التعليميّة من شأنه أن يغيّر من مهارات التفكير التقليديّة، بل من شانه أن يغيّر من أسلوب التدريس، وأسلوب تأليف الكتاب والتقويم. أما الاكتفاء بوضع الإبداع في نهاية سُلّم المهارات فيعني أنه مماثل "للزائدة الدوديّة" التي ليس لها علاقة جوهريّة مع باقي الجسم"[8]

بهذا المدخل التربوي للأبداع يمكننا تأسيس هوية ثقافية عربية جديدة مبدعة. فمصطلح النهضة التي غالبا ما يوظفه المؤرخون لتوصيف حركة الفكر والنقد والإصلاح في المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، من جهة الدلالة ينبغي أن يعطينا الانطباع بمحاولات وجهود النخبة من أجل زرع روح إبداعية في الهوية الثقافية العربية التي دخلت غيبوبتها منذ زمن بعيد. وبعيدا عن التقييمات المتسرّعة، في الحكم ماذا كان مشروع النهضة قد حقق اهدافه أو ما إذا كنت أسئلته وإشكالياته تحتاج إلى إعادة صياغة، فإنه يكشف حالة من الوعي ظلت تسكن العقل العربي منذ صدمة حملة نابليون على مصر في 1798 والى الآن، ترغب في بعث روح الإبداعية الخلاقة في الهوية الحضارية العربية.

إن الهويات الحضارية الاخرى كالصينية والهندية تعطينا الآمال العظيمة في امكان تحقيق ذلك. فها نحن نعيش انبعاث الروح الصينية العظيمة ويقظة الهوية الهندية الجبارة. وهي الهويات التي مرت عليها حالات سبات كادت تفنيها، الى أن انبعثت فيها إرادة الإبداع فأيقظتها مثلما يستيقظ التنين في الأساطير الشرقية. ويؤكد الأستاذ مراد وهبة أن الهوية الحضارية العربية تحمل استعدادات أكثر للخصوبة الإبداعية وللنهوض مجدّدا أكثر من جميع الحضارات التي تجاورها.

 

بدت مقاربة الأستاذ مراد وهبة لمسألة الإبداع فلسفية لشرط واضح كان هو قد ضمّنه في نصوصه. هذا الشرط الأساسي، والذي يمّز عادة المقاربة الفلسفية هو معالجتها لإشكاليات وليس لمشكلات. وطبعا الفرق بين المشكل والإشكالية هو كالفرق بين التفكير الفلسفي والتفكير العلمي، فبينما يقف الخطاب العلمي عند الإجابة المفصلية ببيان أسباب الظاهرة أو بوصف " كيفيّة" حدوثها، يضعنا التفكير الفلسفي أمام " مفارقات". ومعنى المفارقة هنا هو تعدّد الإمكانيات التي تعجز البداهة عن الحسم فيها. واعتقد أن عقل الأستاذ مراد وهبة كان ماهرا جدّا في تقليب جميع الإمكانيات العقلية التي قادت إليها إشكالية الإبداع.

أخذت الإمكانيات المختلفة في سؤال الإبداع الأستاذ مراد وهبة، إلى الدخول في منعطفات ودوائر مفاهميّة متنوعة. فمن الذكاء إلى المنطق إلى الزمن إلى الوجود إلى الحرّية إلى الذاكرة إلى التربية إلى العبقرية، إلى العُصاب، الخ... فهل ابقي من إمكانيات السؤال شيئا؟

حتى نختم لقائنا بالمفكر العربي مراد وهبة في هذا المقال، نقول ونحن نقرأ موقف الرجل من علاقة الإبداع بالتعليم وإصراره على ربط مستقبلنا الحضاري ومستقبل البشرية بمدى نجاحنا في جعل الإبداع محور جميع المهارات التربوية الأخرى، وانتصارنا على ثقافة الذاكرة والاجترار، تحضرني عبارة أوردها الفيلسوف ابيكتاتEpictète  أحد رموز الرواقية الرومانية يقول فيها "لا تُظهر النعاج لرعاتها أنها أكلت جيدا بتقيئ ما أكلته، بل بإخراجها للأصواف والألبان"[9] واعتقد أن روح فكرة فيلسوفنا مراد وهبة ليست بعيدة جدا عن روح فكرة ابيكتات. وكفانا بهذا دليلا.



[1]  نفهم في هذه الدراسة الحضارة بأنها الوجه المادي للثقافة والثقافة بأنها الوجه النظري للحضارة.

[2]  لطفي حجلاوي، مختصر الموهبة والإبداع، دار الأهرام للنشر، تونس، 2016، المقدمة

[3][3] مراد وهبة، فلسفة الإبداع، دار العالم الثالث للنشر، القاهرة، 1996، ص 75

[4]  انظر على سبيل المثال، ابن شهيد الأندلسي، رسالة التوابع والزوابع، تحقيق بطرس البستاني، دار صادر، بيروت، 1967

[5] مراد وهبة، فلسفة الإبداع، ص 85

[6] Le dogmatisme المذهبية أو التعصّب المطلق للمبادئ التي يؤمن بها الشّخص وعلى عكسها النقديّة والنسبيّة

[7] مراد وهبة ومنى أبو سنة، منيفستو الإبداع في التعليم، دار قباء للنشر والتوزيع، القاهرة (الأغلب أنه نشر في 1996 أو 1997) ص 91-92 (بتلخيص)

[8] مراد وهبة ومنى أبو سنة، منيفستو الابداع للتعليم، ص 149-151

[9]  ابيكتيتوس، المُختصَر، ترجمة عادل مصطفى، در رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2019.

 
 

Next Event

RSVP Closed
0 DAYS TO THE EVENT
May 27, 2025, 3:00 PM GMT
Palais Ksar Said - Le Bardo
bottom of page