"فتحيّة خيري" والمسرح الغنائي: من الريادة إلى التأثير الثقافي
- Amira Loubiri

- 1 day ago
- 13 min read
Réseau International Des Chaires ICESCO Pensée, Patrimoine, Lettres Et Arts GROUPE DE RECHERCHE SUR " LA PENSÉE ET LA CRÉATIVITÉ DES FEMMES DANS LE MONDE ISLAMIQUE "
|

أميرة لوبيري
باحثة متحصّلة على الدكتوراه في الموسيقى والعلوم الموسيقيّة من المعهد العالي للموسيقى، جامعة تونس.
فنّانة أوبرا وأستاذة بالمعهد العالي للفنّ المسرحي والمعهد الوطني للموسيقى والرقص بتونس
← السيرة الذاتية :
أميرة لوبيري: فنانة أوبيرا تونسية، متحصلة على الدكتوراه في الموسيقى بالمعهد العالي للفن المسرحي والمعهد الوطني للموسيقى. إلى جانب التدريس لها مشاركات رسمية في المجال الفني الأكاديمي: فقد أدارت ورشة الغناء بالمعهد الوطني للموسيقى وجوقة أوركسترا قرطاج السنفوني. كما شاركت في إنجاز أهم التظاهرات الفنية في تونس وخارجها سوى بمحاضرات أو بأداء كفنانة أوبرا من ذلك محاضرة حول الحياة الموسيقية في تونس من القرن الثامن عشر حتى بداية القرن العشرين، حيث قدمت مخطوطات تونسية متنوعة ذات تأثيرات عثمانية وموسيقية تونسية تودى لأول مرة على الركح. لها مشاركة إنتاجية في كتاب جماعي صادر عن المؤتمر العلمي الوطني بعنوان " التحقيق العالمي، البحث و الجرد البيوليوغرافي".
تم تكريمها سنة 2024 من قبل وزارة الشؤون الثقافية التونسية لمساهمتها في رقمنة الأرشيف الورقي للبارون رودولف بيرلنجي.
مقدّمة:
شكّل المسرح الغنائي التّونسي منذ بدايات القرن العشرين، فضاءً فنّيًّا جامعًا بين الكلمة والنغمة والحركة، وقد برز فيه رجال ونساء ساهموا في بلورة هويّة فنيّة تونسيّة ذات بصمة خاصّة. ورغم القيود الاجتماعية والثقافية التي قُيّدت بها المرأة آنذاك، فإنّ حضورها في المسرح الغنائي لم يكن مجرّد مشاركة رمزية، بل كان فعلاً مؤسّسًا ومُبدعًا[1].
فقد اقتحمت المرأة التّونسيّة خشبة المسرح الغنائي منذ عقود مبكّرة وأثبتت قدرتها على الجمع بين الأداء الدرامي والغنائي، بما يطلبه ذلك من مهارات صوتية وطاقات تعبيريّة عالية. ومن بين هؤلاء الفنّانات "فتحية خيري" و"شافية رشدي" و"فضيلة ختمي" و"صفوة"... إذ لم تكن المرأة مجرّد "بطلة" لأعمال كُتبت لها، بل كانت أحيانًا كاتبة ومؤدّية وقائدة فنّية[2]...
البدايات التاريخيّة للمسرح الغنائي
إنّ المسرح منذ نشأته كان مصاحبا للموسيقى، فأرسطو على سبيل المثال في كتاب "فنّ الشّعر"[3] يؤكّد على حضور "جوقة" المنشدين في المسرحيّات وهذا ما حدا بالبعض إلى اعتبار أنّ المسرح منذ بدايته انطلق غنائيّا. فهو يُعدُّ من أعرق الأشكال الفنّية التي تجمع بين التّمثيل الدرامي والموسيقى والغناء والرقص، ويتمّ التّزاوج بينهم في شكل رواية أو "حدّوتة" تُعدّ خصّيصا لتقديمها على المسرح محاطة بمجموعة من الأغاني والألحان، بهدف التّعريف عن مواقف وأحداث المسرحيّة [4]. تعود جذوره إلى المسرح الإغريقي القديم في القرن الخامس قبل الميلاد، حيث كانت الأعمال التراجيدية تُقدّم بمرافقة جوقات غنائية[5]، كما في مسرحيات "سوفوكليس"[6] ويوربيدس"[7] وقد تطوّر هذا الشكل الفنّي خلال العصور الوسطى في أوروبا عبر المسرح الديني المرتّل، ليبلغ ذروته في إيطاليا خلال القرن السابع عشر مع نشأة الأوبرا وهي الشكل الأقدم والأكثر رسميّة للمسرح الغنائي[8].
أمّا في العالم العربي، فقد كانت مصر هي مهد هذا الفنّ، حيث شهدت البدايات الأولى على يد روّاد أمثال "يعقوب صنوع" الذي أسّس أولى المحاولات المسرحية ذات الطابع الغنائي، ثمّ تطوّر هذا الشكل الفنّي بشكل كبير مع "سلامة حجازي" الذي مزج بين الغناء والتّمثيل ليأتي بعده "سيّد درويش" ويُحدث نقلة نوعية، حيث أدخل الموسيقى الشعبية والوطنية إلى المسرح، وجعل من الغناء عنصرًا دراميا أساسيًّا يخدم النص والموقف المسرحي، ثمّ بدأ المسرح الغنائي بالظهور في لبنان ثمّ في دمشق في النصف الأوّل من القرن العشرين، حيث تطوّر المسرح الغنائي بتأثير من الشعر الملحون والحكايات الشعبيّة، ليأخذ شكله الخاصّ في مختلف البلدان العربيّة[9] ومن بينها تونس التي امتلكت خصوصية بسبب تأثير التراث الأندلسي، حيث نشط هذا الشكل في سياق وطني يهدف إلى ترسيخ الهوية الثقافية من خلال الغناء والمسرح وبرزت أسماء فنّانات تونسيّات ساهمن في تطويره عبر أعمال جمعت الطابع التونسي بالأندلسي والمصري[10].
نشأة المسرح الغنائي في تونس
للحديث عن نشأة المسرح الغنائي التّونسي، نذكر ما ورد في كتاب "الإتحاف" لإبن أبي الضّياف: "أوّل محاولة في هذا النّوع من الفنّ يرجع عهدها إلى زمن المشير "أحمد باي" الذي كانت أمّه "قمر" (الإيطاليّة الأصل) ممثّلة ومغنّية، والتي اقترحت على المؤرّخين "الباجي المسعودي" و"أحمد بن أبي الضّياف"، نظم فصول غنائيّة تمثيليّة لجواريها اللاّتي قدّمن حفلات من هذا النّوع في القصر واشتملت على فصول غنائيّة وتمثيليّة راقصة، أمّا تلحينها فلم يقع إثبات من قام به[11].
أمّا المسرح بمفهومه الحديث، فقد تعرّف عليه التونسيّون عبر الفرق الإيطاليّة والفرنسيّة التي كانت تفد إلى البلاد بانتظام منذ سنة 1826 على أقلّ تقدير[12]، ثمّ استقرّ بعضها في تونس لاحقًا ممّا أفضى إلى تأسيس فرق مسرحيّة مُقيمة منذ سنة 1842 بتونس وكان لها الأثر العميق خاصّة على الشبّان التونسيّين[13] في تكوين جمعيّة تمثيليّة اختاروا لها اسم "النّجمة"[14]، ولكن بقي هذا العمل من غير إنجاز فعليّا ولم يقع عرضه، فعملت إدارة المسرح البلدي في شهر سبتمبر من نفس السنة على جلب أوّل جوقة مصريّة بتونس، عرضت على المسرح البلدي مسرحيّة "العاشق المتّهم"[15]، وكتبت جريدة "الصواب بتاريخ 9 أكتوبر 1908 فيما يتعلّق بهذه الفرقة، أنّ "فنّ التّمثيل من أحسن الفنون وأجزلها فائدة"، فهو يعدّ من وسائل رقيّ الأمم خصوصا قسم الكوميديا منه لاشتماله على انتقاد الأخلاق والعادات بطريقة مُضحكة ومؤثّرة[16]... ويذكر "محمود كامل" بأنّ أوّل من نقل الفنّ المسرحي للجزائر وتونس عام 1907 هو الشّيخ "سليمان القرداحي"، الذي قدم مع فرقته التي تضمّ بعض السوريّين والمصريّين وقد اُعتبر قدومه إلى تونس حدثا كبيرا[17]، ونظرًا لانشغال جميع المسارح الموجودة بالعاصمة[18] بفرق أوروبيّة، وقع الاتفاق مع "التياترو الطّلياني"[19] أن يُخصّص هذا المسرح إلى فرقة "سليمان القرداحي" وذلك ابتداء من شهر جانفي 1909، ونشير أنّه لمّا توفّي "القرداحي" اتّفقوا مع أفراد جمعيّة النّجمة على تكوين جوق أسموه (الجوق التّونسي المصري)[20]، وصعد ممثّلون تونسيّون لأوّل مرّة على خشبة المسرح يوم الأربعاء 2 جوان 1909، وبالتّالي يمكن اعتبار هذا التّاريخ هو يوم نشأت المسرح التّونسي[21]. فتأسّست أوّل جمعيّة مسرحيّة تونسيّة هيّ "جمعيّة الشّهامة الأدبيّة" على يد نخبة من المثقّفين[22] ولم يكن بالجمعيّة ممثّلات أوّل الأمر، ثم وقع انتداب كلّ من "عائشة الصغيرة" و"زبيدة الجزائريّة"...، واستهلّت جمعيّة الآداب نشاطها في 7 أفريل 1911[23] .
تطوّر المسرح الغنائيّ في تونس
تطوّر المسرح بالبلاد التّونسيّة فترة ما بين الحربين، إذ نشأت العديد من الفرق والجمعيّات المسرحيّة منذ مطلع سنة 1920 إلى سنة 1930. وكان لهذه النهضة أثر كبير في تطوّر المسرح الغنائي التّونسي في تلك الفترة ونذكر من بين هذه الجمعيّات المسرحيّة: فرقة "الهلال" سنة 1920 ومن مؤسّسيها "حبيبة مسيكة".[24] ونشير إلى أنّ "محمّد الحبيب" من كبار المسرحيّين التّونسيّين وأكثرهم إنتاجًا[25]، حيث أسّس سنة 1926 مع رجل المسرح الشهير "البشير المتهنّي": "جمعيّة المستقبل التّمثيلي" وعمل على نقل بعض النّصوص المسرحيّة إلى العربيّة الفصحى، وتُعتبر "جمعيّة المستقبل التّمثيلي" من الفرق التي عملت على تقديم أنواع مختلفة من المسرحيّات من دراما وكوميديا وفودفيل[26] ولأوّل مرّة الأوبرا والأوبرا كوميك... "، ويُعتبر "محمّد التريكي" أوّل من اقتحم ميدان تلحين المسرحيّات،[27] فقد اهتمّ في بدايته بالأغاني والموسيقى المسرحيّة وحضر عدّة مسرحيّات لـ"سلامة حجازي" و"كامل الخلعي"، إلى جانب تمارين مجموعة "الشهامة العربيّة" ثمّ جمعيّة "التّمثيل العربي" مع "جورج أبيض"، حيث بدأت تتأثّر الجمعيّات التّونسيّة بالفنّ المسرحي الغنائي المصري، ومن أشهر المسرحيّات الغنائية في ذلك الوقت مسرحيّة "عائدة" التي عرّبها "أحمد بوليمان"[28]، ومن المطربات[29] لمع صوت "فتحيّة خيري" و"صليحة" و"فضيلة ختمي" و"شافية" و"حسيبة رشدي"[30]...، هذا الوعي لدى الموسيقييّن التّونسييّن بضرورة تكثيف تكوينهم وتجاربهم، جعلهم يسعون للاحتكاك أكثر ما يمكن بالتّجارب الموسيقيّة الأخرى.
فتحيّة خيري: صوت المسرح وذاكرة الغناء
لقد نجحت العديد من الأسماء في أن تحجز مكانها في وعي الجمهور التّونسي، إذ أبدعت في المجال المسرحي واقتحمته بحب وإبداع، وقدّمن الغناء المسرحي بأرواحهنّ وجسّدن أشكالاً متنوّعة من الدراما الفنيّة بين الواقعيّة والرمزيّة والكلاسيكيّة... ومهما اختلف نوع التوجّه الفنّي لكلّ منهنّ، تبقى الوسيلة واحدة والهدف واحدًا وهو نقل الفنّ بأصالته وتثمين المشهد الثقافي بتونس.
فقد لعبت النساء في منتصف القرن العشرين دورًا محوريًّا في تطوّر المسرح الغنائي التّونسي، حيث برزت مجموعة من الفنّانات اللواتي ساهمن في إثراء هذا الفنّ وتحدّين القيود الاجتماعية والثقافية التي كانت تحيط بمشاركتهنّ الفنّية ومن بين أبرز هؤلاء الفنّانات، تبرز "فتحية خيري" كواحدة من الرائدات اللّواتي وضعن بصمة فريدة في المسرح الغنائي التّونسي. إذ تميّزت بصوتها القويّ وأدائها التّعبيري، فمزجت بين التراث الأندلسي والغناء الشعبي التّونسي، ممّا منح عروضها أصالة وعمقًا فنيًّا يعكس الهويّة الوطنيّة.
تعود بداية مسيرة "فتحية خيري[31]" (1918-1986) الفنّية إلى دعم المسرحي "سلومة بوالوذنين"[32] الذي شجّعها على دخول عالم الغناء والتّمثيل، إذ شهدت في البداية نفورًا من منظّمي الحفلات العامّة والأفراح الخاصّة باعتبار صغر سنّها، غير أنّهم سرعان ما تراجعوا في أحكامهم المسبقة إثر اطّلاعهم على قدراتها الفنّية الرائعة، وقد قال فيها الشاعر "محمود بورقيبة": «صغيرة في سنّها، كبيرة في فنّها»[33]. فكان أوّل عرض مسرحي شاهدته من خلال "مسرح بن كاملة"، هو مسرحية "مجنون ليلى" من أداء "حبيبة مسيكة" فازداد شغفها بالفنّ[34] وانضمّت إلى فرقة "مستقبل التّمثيلي العربي" وقدّمت معها "شجرة الدر" و"ليلة الذبائح" و"اليتيمين" و"علي بابا"[35]. إلاّ أنّ المرحلة الأبرز في حياتها الفنّية بدأت عند لقاءها بالفنّان "سيّد شطّا"[36] الذي أُتيحت له المصادفة حضور إحدى الحفلات الغنائيّة التي قدّمتها ولفت انتباهه أداؤها المتمكّن وصوتها السلس، فأسهم بشكل كبير في تطوير موهبتها ولحّن لها الكثير من الأغاني من بينها: "فين النّسيم العليل" لـ"محمود بورقيبة" و "وردة حبي" لـ"أحمد خير الدين" و"يا هاترة بالعين" و"ما ثناها" لـ"عبد الرزاق كرباكة"[37] و"محلى ليالي اشبيلية" للـ"هادي العبيدي" و"أنا بنت الريف" لـ"محمد حلاوة" و"أترى تذكريني" لـ"محمد العريبي"[38]...
فتحيّة خيري ودورها في صياغة الذاكرة الفنّية الوطنيّة التونسيّة:
كان أوّل ظهور فنّي لـ"فتحيّة خيري" على خشبة المسرح يوم 14 فيفري 1930، حين أدّت دور "جورجيت" في مسرحيّة "البساط الأخضر" الذي أظهرت فيه طاقات فنّية لافتة جذبت إليها أنظار أعضاء جماعة "تحت السور" وعددًا من المثقّفين في تونس العاصمة، وقد لعب الموسيقي "محمد الشاهد الشيشتي" دورًا أساسيًّا في تكوينها الموسيقي ودرّبها على أداء الموشّحات والأدوار والبشارف، ثمّ ضمّها إلى فرقته الموسيقيّة الخاصّة وبدأت بذلك أولى خطواتها الجادّة في مسيرتها الفنّية[39].
شاركت "فتحيّة خيري" عام 1932 في الاحتفال بعودة الوفد التونسي من المؤتمر الأوّل للموسيقى العربية المنعقد في القاهرة وانضمّت في عام 1941 إلى فرقة "شباب الفنّ" التي تألّفت من مجموعة من الفنّانين البارزين مثل "قدّور الصرارفي" و"علي السريتي" و"إبراهيم صالح"، حيث اشتهرت بأداء أغاني "أم كلثوم" و"إسمهان"، ممّا مكّنها من التميّز في فنون الغناء الشرقي وتقديم الأدوار الفنّية المتنوّعة[40].
كما شاركت بعد ذلك في عدّة فرق مسرحيّة مثل "النجم التّمثيلي" بصفاقس و"المستقبل التّمثيلي" و"المسرح الشعبي" وغيرها من الفرق المسرحيّة، فكان نشاطها المسرحي حافلاً بالأعمال الفنّية مثل: "شهداء الوطنية" و"علي بابا" و "ابن الشعب" و"حمدون" و"القنبلة القاتلة" و"اليد الأثيمة" و"الكوميسار اللّطيف"[41]. ثمّ التحقت بجمعية "الكوكب التّمثيلي"[42] وشاركت في مسرحيّة "الإفريقيّة" من خلال دورٍ غنائي من تلحين "سيّد شطّا" الذي أُعجب بموهبتها في المسرح الغنائي، فقام بتلحين مجموعة من الأغاني والقصائد لها التي سرعان ما لاقت رواجًا واسعًا في الأوساط الفنّية التّونسيّة وأقبل الجمهور على ترديدها وحفظها، ولمعت في العديد من المسرحيّات الغنائية من بينها أوبريت "كليوباترا"[43] من ألحان الـ"سيّد درويش"[44] و"ولادة وابن زيدون" من كلمات "عبد الرزّاق كرباكة" وألحان "صالح المهدي"، إذ تقمّصت فيها دور البطولة.
انضمّت "فتحيّة خيري" إلى فرقة "فضيلة ختمي" وأدّت دور البطولة في أوبريت "العشرة الطيّبة" للـ"سيد درويش" التي أعاد توزيع ألحانها الـ"سيد شطّا" وذلك سنة 1940 بمشاركة الفرقة الجديدة التي ضمّت أيضًا الفنّان "صالح المهدي"[45] والتحقت بفرقة الجمعية الرشيدية[46] للموسيقى التونسيّة سنة 1942، حيث برزت فيها من خلال أدائها المتقن لأغنية "زعمة يصافي الدهر" من تلحين "محمّد التريكي".
قامت "فتحيّة خيري" عام 1955 بزيارات فنيّة إلى المغرب وليبيا والجزائر وعدّة دول أوروبيّة، حيث قدّمت عروضها على مسارح مختلفة. كما كانت من أوائل الفنّانين الذين شاركوا مع فرقة الإذاعة التونسيّة إثر انطلاقها سنة 1985 بعد استقلال تونس، واستمرّت في مسيرتها الفنّية حتى وفاتها في 6 جويلية 1986 تاركة إرثًا موسيقيًّا وثقافيًّا غنّيًّا.
الفنّ والالتزام الوطني: فتحيّة خيري والمقاومة الثقافيّة
لم تكن "فتحيّة خيري" مُجرّد فنّانة تُؤدّي الغناء والتّمثيل بمعزلٍ عن قضايا وطنها الخاضع للاستعمار، بل كانت شخصيّة فنّية منخرطة في عمق النّضال الوطني. فقد وثّق التّاريخ مساهماتها المتعدّدة في حركة الكفاح ضدّ المستعمر، إذ شاركت مع فرقتها في تنظيم حفلات زفاف صوريّة اُستغلّت لتبادل الأسلحة بين الثوار ونقل توجيهات الزعيم "بورقيبة" إلى المقاومين المرابطين في الجبال. كما خصّصت شقّتها في العاصمة لتكون محطّة آمنة يلجأ إليها المقاومون للاختفاء عن أنظار قوّات الاحتلال.
أمّا حبّها للزعيم "بورقيبة" فكان يفوق الوصف، إذ لم تتردّد عند عودته من المشرق في اقتحام صفوف القوات الاستعمارية المتراصة في ميناء تونس رغم تعرّضها للعنف لتشهد لحظة وصوله التّاريخيّة، وكانت أغنيتها الأقرب إلى قلبها هي "سلامات" التي أعدّتها احتفاءً بسلامة الزعيم وصحّته[47].
أسهمت الفنّانة "فتحيّة خيري" في إضفاء روح جديدة على الأغنية التونسيّة من خلال إبداعها في مجال المسرح الغنائي التّونسي، فقد شكّل المسرح فضاءً خصبًا لتطوير الأغنية، كما ساهمت الأغنية بدورها في تعزيز حضور المسرح وتقريبه من الجمهور، ويتجلّى هذا التفاعل بوضوح في تجربة "فتحيّة خيري" التي تُعدُّ من أبرز الوجوه في تاريخ المسرح الغنائي بتونس، حيث نجحت في تقديم رؤية مُتجدّدة للأغنية التّونسيّة مع حفاظها على الخصوصيّات الموسيقيّة التونسيّة.
فلقد استطاع المسرح الغنائي التّونسي في هذه المرحلة المفصليّة من تاريخ البلاد أن يُثري المشهدين الموسيقي والمسرحي وأن يبعث حيوية جديدة في الحياة الثقافيّة. ورغم تشبّثه بثوابت الهويّة التونسيّة في الأغنية، فإنّه لم يُقيّد طاقتها الإبداعيّة بل جسّد صلة حيّة بين الأصالة والتّجديد، وشكّل حصنًا يحمي التنوّع الثقافي من التّلاشي والضياع.
خاتمة:
شكّل المسرح الغنائي في تونس منبرًا فنّيًّا واجتماعيًّا استجاب لتحدّيات التحوّلات السياسية والثقافية، معزّزا الهوية الوطنية ومواكبًا للتطوّرات الفنّية الحديثة. ولقد كان للفنّانة "فتحيّة خيري" تأثير بارز في الحفاظ على الطابع الموسيقي الخاصّ بالمسرح الغنائي التّونسي، إلى جانب دورها الفاعل في تطوير هذا الفنّ من خلال أدائها وتمثيلها لأدوار تعكس قضايا اجتماعيّة وثقافيّة، إذ لم تكن مجرّد مغنّية أو ممثّلة، بل كانت رمزًا للمرأة الفنّانة التي تجاوزت القيود الاجتماعية وعملت على تمثيل قضايا المرأة في تونس عبر المسرح الغنائي، مساهمة بذلك في خلق مساحة فنّية تفاعليّة مع الجمهور وبناء جسر بين التّقاليد والحداثة.
القائمة البيبليو غرافية:
◀︎ الكتب:
الراعي، علي، المسرح في الوطن العربي، عالم المعرفة، الكويت، الطّبعة الثانية، أوت، 1999.
السّاحلي، عبد المجيد، افتتاح الموسم الفنّي للرشيديّة، الإذاعة والتّلفزة التونسيّة، تونس، 9 ديسمبر 1995.
المدني، عزّ الدّين، السّقانجي، محمد، روّاد التّأليف المسرحي في تونس (1900-1950)، دراسات ونصوص مسرحيّة، تونس، الشركة التونسيّة للتّوزيع، 1986.
بن سلامة، أحمد، المسرح والمرأة في الثقافة العربية، دار الفكر العربي، القاهرة.
بوذينة، محمّد، سيّد شطّا 1897-1985 الفنّان الذي أحبّ تونس وأخلص لها، فيفري، 1987، شركة فنون
الرسم والنشر والصحافة، القصبة، تونس.
بوذينة، محمد، فتحية خيري 1918-1986م، سلسلة مشاهير، 169، الحمامات، تونس، 1996.
بوذينة، محمد، مشاهير التّونسيّين، ط. 3، الحمّامات، تونس، 2001، ص. 418.
دائرة المعارف التونسيّة، تاريخ المسرح التونسي من البدايات إلى 1956، الكراس 5، بيت الحكمة، قرطاج، 1995.
شرف الدّين، منصف، تاريخ المسرح التّونسي منذ نشأته إلى نهاية الحرب العالميّة الأولى، تونس، شركة العمل للنشر والصّحافة، 1971.
طاليس، أرسطو، فنّ الشّعر، ترجمة وتحقيق: عبد الرحمان بدوي، دار الثقافة، بيروت، لبنان، 1984.
◀︎ المقالات:
الطرابلسي، فراس (2023)، "المسرح الغنائي في تونس: أزمة شكل فنّي في سياق مجتمع متحوّل"، المؤتمر الثلاثين للموسيقى العربية، دار الأوبرا المصرية، مصر، 12 صفحة.
غازي، محمد فريد، المسرح العربي في تونس تاريخه واتّجاهاته من نشأته إلى 1918، مجلّة الفكر، عدد ممتاز عن المسرح، 6 جويلية، 1961.
◀︎ الرسائل والاطروحات الجامعية:
بشّة، سمير، الموسيقى التونسيّة من خلال إنتاج الشيخ أحمد الوافي، خميّس ترنان ومحمد التّريكي، رسالة ختم الدروس الجامعيّة، المعهد العالي للموسيقى، تونس.
بن جدّو، منية، المسرح الغنائي التّونسي 1907 – 1940، رسالة ختم الدروس الجامعيّة، السنة الجامعيّة 1998-1999.
▶︎ Ouvrages :
ABASSY Hamadi, Tunis chante et danse (1900-1950), ALIF, Tunis, Les Editions de la Méditerranée, 2002.
AMINE, K. & Carlson M., Theatres of Morocco, Algeria and Tunisia: Performance Traditions of the Maghreb, Palgrave Macmillan, New York, USA, 2011.
CARLSON, M., Performance: A Critical Introduction. Routledge. London, UK, 2004.
▶︎ Articles :
ZAHROUNI, R., « Tunisian Theater Through the Lens of Revolution », Cambridge University Press, Cambridge, UK, 2019.
▶︎ Dictionnaires :
Oxford Reference :
Oxford Classical Dictionary :
▶︎ Archive Centre des Musiques Arabes et Méditerranéennes :
[1] بن سلامة، أحمد، المسرح والمرأة في الثقافة العربية، دار الفكر العربي، القاهرة.
[2] شرف الدّين (منصف)، تاريخ المسرح التّونسي منذ نشأته إلى نهاية الحرب العالميّة الأولى، تونس، شركة العمل للنشر والصّحافة، 1971.
[3] طاليس، أرسطو، فنّ الشّعر، ترجمة وتحقيق: عبد الرحمان بدوي، دار الثقافة، بيروت، لبنان، 1984.
[4] بن جدّو، منية، المسرح الغنائي التّونسي 1907 – 1940، رسالة ختم الدروس الجامعيّة، السنة الجامعيّة 1998-1999، ص .7.
[5] CARLSON, M, Performance : A Critical Introduction, Routledge, London, UK, p. 163.
[6] كاتب تراجيدي يوناني (حوالي 496-406 ق.م) يُعدُّ أحد كبار كتّاب التّراجيديا في أثينا، وله نحو 123 مسرحيّة، من ضمنها مسرحياته السبع الباقية والتي عُرفت بتعقيد الحبكة وعمق الشخصيات، وفحص العلاقة بين البشر والإله. للمزيد من المعرفة، انظر:
[7] كاتب تراجيدي أثيني (حوالي 480-406 ق.م) لعب دورًا رئيسيًّا في تطوّر الدراما القديمة، ولا يُمكن التقليل من تأثير أعماله على أشكال المسرح الحديثة. فقد كانت تراجيدياته مبتكرة دراميا وتُمثّلُ تحدّيّا فكريّا من خلال إدخال البعد النفسي وتقديم شخصيات بمضمون واقعي. للمزيد من المعرفة، انظر:
[8] AMINE, & CARLSON, M, Theatres of Morocco, Algeria and Tunisia : Performance Traditions of the Maghreb, Palgrave Macmillan, NeW York, USA, p. 136.
[9] ZAHROUNI, R, «Tunisian Theater Through the Lens of Revolution », Cambridge University Press, Cambridge, UK, p. 13.
[10] الطرابلسي، فراس (2023)، "المسرح الغنائي في تونس: أزمة شكل فنّي في سياق مجتمع متحوّل"، المؤتمر الثلاثين للموسيقى العربية، دار الأوبرا المصرية، مصر، ص.9.
[11] الراعي، علي، المسرح في الوطن العربي، عالم المعرفة، الكويت، الطّبعة الثانية، أوت، 1999، ص. 434.
[12] دائرة المعارف التونسيّة، تاريخ المسرح التونسي من البدايات إلى 1956، الكراس 5، بيت الحكمة، قرطاج، 1995، ص. 19.
[13] هؤلاء الشبّان هم الأستاذ "أحمد بوليمان" والصحافي القدير "البشير الخنقي" و"محمد بورقيبة" و"الهادي الأرناؤوط" و"سليمان الصحراوي".
[14] دائرة المعارف التونسيّة، نفس المرجع، ص. 167.
[15] المرجع السابق، ص. 169.
[16] شرف الدّين، منصف، المرجع السابق، ص. 15.
[17] في 1 ديسمبر 1908.
[18] كان يوجد بتونس العاصمة في تلك الفترة، مسرح البلديّة الذي تأسّس سنة 1902 ومسرح روسيني سنة 1903، (قاعة سينما بالاص حاليّا).
[19] أي قاعة روسيني.
[20] دائرة المعارف التونسيّة، المرجع السابق، ص. 170.
[21] شرف الدّين، منصف، المرجع السابق، ص. 17.
[22] "الصادق الرزقي" مدير شركة إفريقيا وصاحب كتاب: "الأغاني التّونسيّة" والمحامي "محمّد العبدلي" و"علي عبد الوهّاب" شقيق العلاّمة "حسن حسني عبد الوهّاب" و"محمّد بورقيبة" الخ. للمزيد من الاطلاع، انظر:
غازي، محمد فريد، المسرح العربي في تونس تاريخه واتّجاهاته من نشأته إلى 1918، مجلّة الفكر، عدد ممتاز عن المسرح، 6 جويلية، 1961، ص. 10.
[23] شرف الدّين، منصف، المرجع السابق، ص. 21.
[24] المدني، عزّ الدّين، السّقانجي، محمد، روّاد التّأليف المسرحي في تونس (1900-1950)، دراسات ونصوص مسرحيّة، تونس، الشركة التونسيّة للتّوزيع، 1986، ص. 69.
[25] من مسرحيّاته نذكر: "روي بلاس" ترجمة: صالح رضا الأحمر ومحمد الحبيب و"السفّاح فليب الثاني" و"الواثق باللّه الحفصي" و"فتح فارس" و"الرّشيد براكمة" و"الأحدب" ... للمزيد من الاطلاع، انظر: شرف الدّين، منصف، المرجع السابق، ص. 28.
[26] يستمدّ مسرح "الفودفيل" اسمه وجذوره من أغان نورمنديّة كانت رائجة في فرنسا، منذ عدّة قرون في جهة "فال دو فير" التي تقوم على أغان خفيفة ساخرة، وبمرور الوقت حُرّفت التّسمية وصارت "فو دو فيل" قبل أن يقع إقرار "فودفيل"، دون أن تتخلّى عن شكلها ومضمونها الأصلي حتّى بداية القرن التاسع عشر، حيث أصبحت تعني كوميديا شعبيّة هزليّة ليس لها غايات سيكولوجيّة أو أخلاقيّة.
[27] أوّلها "شمشون ودليلة" وآخرها "ولاّدة وابن زيدون" التي ساهم معه في تلحينها "محمّد عبد العزيز العقربي" و"صالح المهدي".
[28] شرف الدّين، منصف، المرجع السابق، ص. 28.
[29] الساحلي، عبد المجيد، المرجع السابق، ص. 68
[30] بشّة، سمير، الموسيقى التونسيّة من خلال إنتاج الشيخ أحمد الوافي، خميّس ترنان ومحمد التّريكي، رسالة ختم الدروس الجامعيّة، المعهد العالي للموسيقى، تونس، ص. 57.
[31] اسمها الحقيقي "خيرة اليعقوبي"، وقد اختار لها الشاعر "عبد الرزّاق كرباكة" اسمًا فنّيًّا "فتحيّة خيري"، للمزيد من الاطّلاع، انظر:
بوذينة، محمد، فتحية خيري 1918-1986م، سلسلة مشاهير، 169، الحمامات، تونس، 1996. ص. 7.
تنحدر "خيرة" من مدينة الدهماني بولاية الكاف وبعد وفاة والدتها أثناء الولادة، تولّت جدّتها "حفصيه" رعايتها، فغادرت الشمال الغربي للبلاد واستقرا في العاصمة تونس، حيث أقامت "خيرة" مع جدّتها في حي "باب سويقة" وواصلت مسيرتها الدراسية بالعاصمة. للمزيد من الاطّلاع، انظر:
ABASSY Hamadi, Tunis chante et danse (1900-1950), ALIF, Tunis, Les Editions de la Méditerranée, 2002.
[32] زوج أخت "فتحيّة خيري" وهو الذي شجّعها في بداياتها على دخول عالم الفنّ، حيث كان يُنظّم حفلات وعروض سينمائية بساحة "باب سويقة". للمزيد من الاطّلاع، انظر:
بوذينة، محمد، مشاهير التّونسيّين، ط. 3، الحمّامات، تونس، 2001.
[33] بوذينة، محمد، فتحية خيري 1918-1986م، المرجع السابق، ص. 6.
[34] ABASSY Hamadi, Ibid, p. 28.
[35] نفس المرجع، ص. 4.
[36] كان لـ"سيّد شطّا" دور مهمّ في دعم الفرق المسرحية التونسيّة، إذ عرّف الجمهور المحلّي على الروايات الغنائية الكبرى مثل "كليوبترا"، ممّا ساهم في توسيع أفق الذوق الفنّي لدى التّونسيين.
[37] بوذينة، محمّد، سيّد شطّا 1897-1985 الفنّان الذي أحبّ تونس وأخلص لها، فيفري، 1987، شركة فنون الرسم والنشر والصحافة، القصبة، تونس. ص. 15.
[38] بوذينة، محمد، فتحية خيري 1918-1986م، المرجع السابق، ص. 14-15.
[39] ABASSY Hamadi, Ibid, p. 29.
[40] بوذينة، محمد، مشاهير التّونسيّين، المرجع السابق، ص. 418.
[41] بوذينة، محمد، فتحية خيري 1918-1986م، المرجع السابق، ص. 8.
[42] تحت إدارة: محمد الحبيب" بوذينة، للمزيد من الاطلاع، انظر: محمّد، بوذينة، سيّد شطّا 1897-1985، المرجع السابق، ص. 27.
[43] لحّن فصلها الأوّل "سيّد درويش" وأتمّ تلحينها "محمّد عبد الوهّاب". للمزيد من الاطلاع، انظر: بوذينة، محمّد، سيّد شطّا 1897-1985، المرجع السابق، ص. 27.
[44] نفس المرجع، ص. 19.
[45] Archive Ennejma Ezzahra : Centre des Musiques Arabes et Méditerranéennes :
[46] نفس المرجع، ص. 15.
[47] بوذينة، محمد، فتحية خيري 1918-1986م، المرجع السابق، ص. 7.







